بقلم : سونيا موزيكاروفا – مستشارة سابقة لوزير الخارجية المساعد لجمهورية سلوفاكيا
بينما تظل أنظار العالم مركّزة على صمود أوكرانيا البطولي ضد العدوان الروسي، يشهد قطاع الاقتصادات في دول أوروبا الوسطى والشرقية (CEE) ثورة هادئة تعيد تشكيلها.
لقد أصبحت دول أوروبا الوسطى والشرقية مراكز ابتكار نشطة في السنوات الأخيرة، حيث أوجدت موجة جديدة من الشركات الناشئة التكنولوجية. على سبيل المثال، أصبحت شركة “UiPath” الرومانية رائدة في مجال الأتمتة، مما يعزز كفاءة العمل عن طريق تحرير العمال من المهام المتكررة. وفي بولندا، تعمل شركة “Docplanner” على تحويل الوصول إلى الرعاية الصحية باستخدام الذكاء الاصطناعي لربط ملايين المرضى بالأطباء. بينما تسهل شركة “Infobip” الكرواتية، بمنصتها التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، التفاعل السلس بين الشركات والحكومات والمواطنين، تعمل شركة “Payhawk” البلغارية على تحويل إدارة التمويل المؤسسي من خلال تبسيط إدارة النفقات.
معًا، تُظهر هذه الشركات أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون قوة فعّالة للخير، حيث يحقق تقدمًا سريعًا في مجالات الرعاية الصحية والتمويل ويزيد من إنتاجية العمل. قد تأتي أهم الابتكارات التكنولوجية القادمة من حاضنة شركات ناشئة في وارسو أو من مختبرات جامعية في بوخارست أو من فضاء عمل مشترك في كييف – وربما تم تطويرها بتكلفة أقل بكثير من نظيراتها في الغرب.
قد يقول البعض إن هذه الموجة من الابتكار تتشكل على الرغم من التحديات العديدة التي تواجهها المنطقة، بينما يرى آخرون أنها ناتجة عنها. ففي سعيها للحفاظ على تفوقها التنافسي في القطاعات التقليدية مثل صناعة السيارات، تواجه اقتصادات أوروبا الوسطى والشرقية أيضًا ضغوطًا مالية ما بعد الجائحة، التي تفاقمت بسبب القواعد الجديدة للميزانية في الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، قدمت الحرب في أوكرانيا مجموعة جديدة من التهديدات، من الهجمات الإلكترونية الروسية المستمرة التي تستهدف سلاسل الإمداد والبنية التحتية الحيوية، إلى حملات التضليل المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على مساعدة دول أوروبا الوسطى والشرقية في مواجهة هذه التحديات المعقدة، من خلال خلق قيمة كبيرة في القطاعات العامة التقليدية مثل الرعاية الصحية والتعليم، وتمكين الحكومات من مواجهة التدخلات الخارجية وحماية الشبكات الحيوية للطاقة.
ومن المشجع أن دول أوروبا الوسطى والشرقية تمتلك أساسًا قويًا لبناء قطاع تكنولوجي مزدهر، مع كتلة حرجة من المهندسين والخريجين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM). كما ارتفعت تقييمات الشركات في المنطقة أكثر من سبع مرات بين عامي 2017 و2022. علاوة على ذلك، ارتفعت حصة الاستثمارات من خارج الاتحاد الأوروبي من 9% في 2022 إلى 21% في 2023، مما يبرز الجاذبية العالمية المتزايدة لهذه الاقتصادات.
ومع ذلك، تبقى هناك تحديات كبيرة. حيث أظهرت الأبحاث الأخيرة أن اقتصادات أوروبا الوسطى والشرقية لا تزال تتخلف عن نظيراتها في غرب أوروبا في مجال البنية التحتية والاستثمار. ورغم أن المنطقة تضم أكثر من 150 مليون نسمة وناتج محلي إجمالي يقارب 2.5 تريليون يورو (2.7 تريليون دولار)، إلا أن إجمالي الاستثمارات الخاصة في الأسهم الخاصة انخفض بنسبة 40% في 2023، ليصل إلى 1.7 مليار يورو. وبناءً عليه، فإن إطلاق شركة ناشئة في المنطقة قد يشبه محاولة بناء مركبة فضائية باستخدام قطع غيار من متجر دراجات.
يشكل صعود الأحزاب الشعبوية تحديًا آخر خطيرًا، حيث يهدد بإضعاف إدارة الاقتصاد الكلي المسؤول ويعوق جذب الشركاء والمستثمرين. بدلاً من معالجة الضغوط المالية من خلال خفض الإنفاق، اختار العديد من حكومات دول أوروبا الوسطى والشرقية زيادة الضرائب على الشركات والضرائب المضافة، مفضلين التخفيف المؤقت على الاستقرار الاقتصادي طويل الأمد.
سيكون من الأفضل اتباع استراتيجية أكثر استشرافًا تحتضن الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي لدفع النمو الاقتصادي والابتكار عبر المنطقة. ولإطلاق هذه الإمكانات، ينبغي لدول أوروبا الوسطى والشرقية اتخاذ ثلاث خطوات رئيسية.
أولاً، يجب أن يركز صانعو السياسات على توسيع التعليم في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) والاحتفاظ بأفضل المواهب. العقبة الرئيسية أمام تحول المنطقة إلى “سيليكون فالي” التالي هي نقص المهنيين المهرة. ورغم أن هناك العديد من الشركات الناشئة الواعدة في مجالات التكنولوجيا الحيوية والتمويل والروبوتات، إلا أنها لا يمكنها النمو – ناهيك عن أن تصبح شركات يونيكورن – دون توفر قاعدة قوية من المواهب. وعلى الرغم من أن التعليم هو منفعة عامة، فإن بطء وتيرة الإصلاحات في دول أوروبا الوسطى والشرقية يعني أن القطاع الخاص يجب أن يركز أيضًا على تطوير رأس المال البشري.
ثانيًا، يمكن أن يؤدي التكامل الأوروبي الأعمق إلى تحفيز الابتكار من خلال تسهيل تبادل الأفكار والمواهب ورؤوس الأموال عبر الحدود. ومن هذا المنطلق، أطلقت المفوضية الأوروبية مؤخرًا مبادرة “مصانع الذكاء الاصطناعي”، التي توفر للمطورين الوصول إلى القدرة الحاسوبية والبيانات والموارد الأخرى اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة. كما بدأت عدة دول في المنطقة في استكشاف شراكات تكنولوجية منظمة مع حكومات أوروبية أخرى لتعزيز الأولويات الاستراتيجية المشتركة.
وأخيرًا، يجب على الحكومات تعزيز الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ورغم الاضطرابات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة في العامين الماضيين والانخفاض اللاحق في تدفقات استثمارات الأسهم الخاصة، أظهرت المنطقة مرونة ملحوظة. وبينما تتهيأ اقتصادات أوروبا الوسطى والشرقية للعب دور محوري في إعادة بناء أوكرانيا، يجب عليها أولاً معالجة فجوات البنية التحتية، والنقص في التمويل، وعدم اليقين التنظيمي الذي قد يعيق جذب المستثمرين المحتملين. إن تعزيز جاذبية المنطقة أمر ضروري ليس فقط لقطاع التكنولوجيا، ولكن أيضًا لتعزيز مشاريع البنية التحتية الرقمية مثل شبكات الجيل الخامس، ومراكز البيانات، ومرافق الحوسبة الكمومية.
بينما تواجه اقتصادات أوروبا الوسطى والشرقية هذه التحديات، أصبح واضحًا بشكل جلي أن عليها التحرك بسرعة للاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي، وإلا فإنها قد تشهد جيلًا من المواهب يبحث عن فرص أفضل في أماكن أخرى.