بقلم نجيبة جلال
في خضم النزاع الدائر بين الزميلين الحسناوي وجمال، يبدو أن هذا الخلاف، الذي يظهر كأي خلاف مهني عادي، قد تم تضخيمه بشكل غير مبرر بفعل بعض الأطراف التي تستغل مثل هذه النزاعات لتأجيج الفتن. لقد تم تحويل نزاع بسيط إلى معركة قد تؤدي إلى تشتيت الجسم الصحفي. ورغم حدة هذا الخلاف، فإنه لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن هذا النزاع هو في الحقيقة غطاء لصرف الأنظار عن الأزمات العميقة التي يعاني منها القطاع الصحفي.
إن الصحفيين اليوم مطالبون بعدم السماح باستغلال نزاعاتهم الشخصية لتكون سلاحًا بيد أصحاب المصالح الضيقة الذين يسعون لإلهاء الجسم الصحفي عن القضايا الحقيقية. مشاكل مثل مصير اللجنة المؤقتة لتسيير القطاع ومرسوم الدعم الذي لا تزال تحيط به التساؤلات حول آليات توزيعه وشفافيته، هي القضايا الرئيسية التي تستدعي الاهتمام. هذا هو مكمن الخلل الذي يجب أن نضع الإصبع عليه، لا الانجرار وراء نزاعات قد تخدم أطرافًا بعينها.
الترويج لهذا النزاع يخدم مصالح من يريدون تصوير الصحفيين على أنهم غير قادرين على التصرف بمسؤولية، مما يعزز الاعتقاد الخاطئ بأن الحلول يجب أن تأتي من خارج القطاع، عبر تدخلات غير مهنية أو حتى قضائية. هذا التصور مغلوط وموجه لخدمة أجندات تهدف إلى فرض الوصاية على الصحافة، بدلاً من تمكينها من حل مشاكلها عبر الحوار والوساطة.
اللجنة المؤقتة، ومعها النقابات المهنية، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن تدهور الأوضاع في القطاع، ليس فقط لعجزهما عن حماية الصحفيين، ولكن أيضًا لانحيازهما لمصالح ضيقة ومشاريع لا تخدم سوى أطراف محددة. الطريقة التي يجري بها الترويج للمصادقة على “مدونة السلوك” تذكرنا بالأساليب الغامضة والمشبوهة التي تم بها تمرير وثائق أخرى في الماضي. هذه الأساليب تثير شكوكًا حول نزاهة واستقلالية هذه الهيئات وقدرتها على إدارة القطاع بشفافية.
بدلاً من السعي لإيجاد حلول حقيقية للنزاعات بين الصحفيين، نجد أن اللجنة المؤقتة تعمل في الكواليس على إعداد “مدونة السلوك”، وكأنها الحل السحري لكل المشاكل. لكن الحقيقة أن هذه المدونة لا تتجاوز كونها نظامًا داخليًا يصلح لإدارة معمل خياطة، بعيدًا عن أي علاقة بتنظيم قطاع الصحافة الحرة. ما يثير القلق أكثر هو أن المدونة تتضمن مفاهيم دينية لا مكان لها في إطار تنظيم قطاع الصحافة الذي يجب أن يقوم على الحرية والمسؤولية.
استخدام مفاهيم مثل “الغيبة” في إطار الصحافة يضع اللجنة المؤقتة في موقف مشبوه، وكأنها تحاول تحويل الصحافة إلى محكمة أخلاقية تتخذ قراراتها بناءً على معايير دينية. هذا التوجه يمثل انحرافًا خطيرًا عن مسار الصحافة الذي يجب أن يكون مبنيًا على النقد والشفافية، لا على مفاهيم أخلاقية أو دينية ضيقة. الصحفيون ليسوا بحاجة إلى “شرطة أخلاق”، بل يحتاجون إلى هيئة مهنية قوية تحمي حقوقهم وتدافع عنهم ضد الضغوط والتعسفات.
ما تحتاجه الصحافة اليوم ليس وثيقة تُكتب في الكواليس وتُمرر بمفاهيم غريبة عن مهنتنا، بل نحتاج إلى سلوك عملي وأخلاقي يعكس قيمنا الحقيقية كمجتمع صحفي مسؤول. الصحافة ليست مهنة تحتاج إلى تعليمات من قبيل “مدونة سلوك” تُشبه النظام الداخلي لمعمل أو مؤسسة، بل هي مهنة مبنية على حرية الرأي والتعبير، والالتزام بمبادئ المهنية والشفافية.
إضافة إلى ذلك، لا يمكن التغاضي عن الحاجة الملحة لتحرير القطاع من العقلية الحزبية التي لا تزال تهيمن عليه. القطاع الصحفي اليوم يعيش مرحلة حساسة تتطلب أن يكون على رأسه صحفي يمتلك صفات رجل دولة. هذا يعني أن القطاع بحاجة إلى قائد قادر على إعادة الصحافة إلى دورها الريادي في تشكيل الخط الأمامي للدفاع عن الوطن، خصوصًا في ظل الحروب الإعلامية التي تتعرض لها المملكة.
لقد أولت الدولة المغربية اهتمامًا كبيرًا بقطاع الصحافة، ليس فقط على مستوى الدعم القانوني، بل أيضًا من خلال التمويلات التي ضختها لدعمه، وأبرز دليل على ذلك هو الدعم الذي قدم بقرار ملكي خلال فترة جائحة كورونا. إن القطاع يستحق قيادة تستطيع توجيه هذا الدعم ليخدم الصحافة الحرة والمسؤولة، بدل أن يتم استغلاله في مصالح ضيقة أو لخدمة أجندات حزبية.
المرحلة الحالية تستدعي قيادة واعية، تفهم جيدًا أهمية الصحافة في تعزيز الأمن القومي ودعم استقرار البلاد. رجل دولة، وليس مجرد صحفي، هو من يمكنه إعادة التوازن إلى هذا القطاع الحيوي. هذا يتطلب قيادة رشيدة تفهم أن الصحافة ليست ساحة للصراعات أو المصالح الشخصية، بل جبهة أمامية تحمي البلاد من حملات التشويه والمعلومات المضللة.
الزميلان الحسناوي وجمال، اللذان وجدا نفسيهما في قلب هذا النزاع، يجب أن يدركا حجم المسؤولية التي يتحملانها تجاه المهنة ككل. لا ينبغي لنزاعهما أن يُستخدم من طرف البعض كأداة لإلهاء الصحفيين عن القضايا الأساسية و الترويج لصورة سلبية عن مدى مسؤولية الصحافيين..يعاني منها القطاع.
اليوم، يجب علينا جميعًا أن نرتقي فوق النزاعات الشخصية ونتحد لمواجهة التحديات الحقيقية التي تهدد مستقبل الصحافة. اللجنة المؤقتة ومرسوم الدعم يجب أن يكونا في مقدمة الاهتمام، فهما المفتاح لإعادة تنظيم القطاع بشكل يخدم حرية الصحافة ومسؤوليتها. إذا استمر انشغالنا بالنزاعات الهامشية، سنفقد القدرة على الدفاع عن حقوقنا ومصالحنا، وسنترك المجال مفتوحًا لمن يسعى إلى استغلال الوضع لصالحه.
إن القطاع بحاجة إلى وعي جماعي ومسؤولية مشتركة، والنزاعات الفردية لا ينبغي أن تكون عائقًا أمام الإصلاح الضروري لإنقاذ الصحافة.