صناعة الوهم – من بورديو إلى قاعات القضاء ومشهد الصحافة المغربية

صناعة الوهم – من بورديو إلى قاعات القضاء ومشهد الصحافة المغربية

- ‎فيشن طن, واجهة
صناعة الوهم
إكسبريس تيفي

بقلم نجيبة جلال

بيير بورديو، في تحليله العميق للمجتمع، يكشف أن ما نعتقده “رأيًا عامًا” ليس إلا نتاج علاقات اجتماعية وقوى نفوذ خفية تعمل على صياغته. بالنسبة له، الرأي العام ليس انعكاسًا موضوعيًا لإرادة الجماهير، بل هو بناء اجتماعي مُصنع، تُعيد تشكيله باستمرار النخب المسيطرة، من خلال أدوات رمزية كاللغة والإعلام.

هذه الدينامية تجعل الرأي العام أداة للضغط والتوجيه، لا لتجسيد الحقيقة. إنه قوة يُخشى منها، لكنها ليست بريئة؛ فهي تخدم مصالح محددة تحت قناع الإجماع الشعبي.

هذا التصور يجد صداه في كلمات المحامي الفرنسي بول لومبارد الذي قال أثناء دفاعه عن كريستيان رانوكي عام 1976: “لا تصغوا للرأي العام الذي يطرق باب هذه القاعة. إنه عاهرة تجذب القاضي من كمّه. يجب طرده من قاعاتنا، لأنه عندما يدخل من باب، تخرج العدالة من الباب الآخر.” في هذه العبارة، يفضح لومبارد كيف يمكن للرأي العام، بصيغته المُصنعة، أن يتحول إلى خصم مباشر للعدالة. عندما يُستدعى إلى قاعات المحاكم، لا يبقى للقضاة حرية الحكم استنادًا إلى القانون، بل يجدون أنفسهم تحت رحمة ضغوط اجتماعية وإعلامية صُنعت مسبقًا لتوجيه القرارات.

هذه الظاهرة تتجلى بوضوح اليوم في المغرب، حيث يعيش قطاع الصحافة على وقع تحولات خطيرة تُعيد صياغة دوره في تشكيل الرأي العام. يتم تحييد أصوات صحفية مؤثرة وناقدة، تُستبدل بوجوه جديدة خاضعة، بينما تُقمع الأصوات المزعجة التي لا تتماشى مع الخطاب الموجه. الهدف واضح: إنشاء قطاع إعلامي تابع بالكامل، يُستخدم كأداة لتشكيل رأي عام مُصنع، يخدم أجندات القوى الراغبة في السيطرة على المشهد العام.

الخطر الحقيقي لا يقتصر على الصحافة فقط، بل يمتد إلى القضاء. عندما يتحول الإعلام إلى سلاح بيد من يريدون التحكم، يُصبح الرأي العام أداة ضغط تُستخدم للتأثير على القضاة وتوجيه التشريعات. القضايا الحساسة، مثل الفساد أو الجرائم الكبرى، تُصبح ساحات مسرحية تُدار فيها العدالة تحت وطأة ضغط جماهيري مزيف، يخدم مصالح النخب بدلًا من القوانين.

إن هذا التوجه يُنذر بعواقب وخيمة. مع الوقت، ستُمحى الأصوات المستقلة والمزعجة، ليبقى خطاب واحد يفرض نفسه على الجميع. الصحافة، التي يُفترض أن تكون سلطة رابعة، ستتحول إلى أداة دعائية، والقضاء، الذي يُفترض أن يكون ركيزة العدالة، سيتحول إلى مؤسسة تُدار وفقًا لما يُريده صانعو الرأي العام.

إذا استمر هذا النهج، فإننا لن نخسر فقط استقلال القضاء والصحافة، بل سنفقد إحدى أهم أدوات التوازن في المجتمع: القدرة على كشف الحقيقة بعيدًا عن التلاعب. بورديو كان محقًا عندما حذر من خطر هذه البُنى الاجتماعية الخفية، لأن ما يبدو كإجماع شعبي يمكن أن يكون في الحقيقة قناعًا يُخفي لعبة نفوذ تهدد العدالة والديمقراطية معًا.

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *