هل يستعيد الصحفي الريادة الفكرية من “تلبيس ابليس” ؟

هل يستعيد الصحفي الريادة الفكرية من “تلبيس ابليس” ؟

- ‎فيشن طن, واجهة
شن طن نجيبة جلال ابليس
إكسبريس تيفي

بقلم : نجيبة جلال

في عصرٍ يهيمن فيه زخم السطحية، باتت التفاهة تقود المشهد الجماهيري بقوةٍ عاتية، مجرّدة الوعي الجمعي من العمق ومتاجرة بالغرائز العابرة. أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي حلبةً مفتوحة لصراعٍ محموم على الاهتمام، حيث تتصدر المحتويات سهلة الإنتاج وسريعة الاستهلاك، ويُقصى الفكر العميق إلى الهوامش. في هذا السياق المضطرب، يبرز الصحفي الحقيقي كحارسٍ للعقل ومنافحٍ عن القيم الفكرية التي تكاد تغيب وسط هذا المد الجارف.

قديماً، وضع المتنبي معياراً للسيادة بقوله : “لولا المَشقّة سَادَ الناسُ كُلُّهم الجُودُ يُفْقِر والإقدامُ قَتَّالُ”

فالسيادة الحقيقية، في رؤيته، ليست هبة تُمنح، بل نتاج جهدٍ مضنٍ يختزل معاني التضحية والجرأة. الجود يتجاوز العطاء المادي إلى بذل ما يُقيم الحياة، بينما الشجاعة هي المغامرة بالوجود ذاته في سبيل معنى أسمى. وعلى هذا النحو، ارتفعت قيمة القيم النبيلة بقدر ما ازدادت ندرتها. لكن الزمن تبدّل، وانقلبت المعايير؛ فاليوم، تنجرف الجماهير نحو ما هو سهل ومريح، حيث يُستبدل الفعل الجاد بالزيف السهل، وتُستبدل السيادة بالزخم الخاوي.

هذه الظاهرة ليست وليدة العصر الرقمي، بل تمتد جذورها إلى عمق التاريخ. ابن قتيبة، في القرن الثالث الهجري، وصف كيف كان “القصّاص” يستدرون انتباه العامة بمرويات خرافية وأكاذيب تستثير العواطف، مشيراً إلى شغف الجماهير بما يدهش ويفاجئ ولو كان مجرد وهم. ابن الجوزي، من جانبه، في كتابه تلبيس إبليس، فضح انجذاب العامة إلى الغريب والتافه، وكيف أن القصّاص يستغلون هذا الانجذاب بتكثيف اللاعقلانية في خطابهم. أما غوستاف لوبون، في العصر الحديث، فقد أوجز فيكتابه سيكولوجية الجماهير كيف تنفر الجماهير من العقلانية والجدية، وتستسلم لما يلهب مشاعرها دون أن يتحدى فكرها.

اليوم، يتكرر المشهد بأسلوب أكثر خطورة. المؤثرون في عالم الرقمنة أصبحوا قصّاص هذا العصر، يقدمون محتوىً يتلاعب بالعاطفة ويعزز النزعة الاستهلاكية للوقت والعقل، بينما تُهمّش الصحافة الجادة أمام هذه الهيمنة. هنا، يتجلى التحدي الحقيقي للصحفي: أن يكون أكثر من مجرد ناقل للخبر، بل أن يُعيد تعريف مهنته كصانعٍ للوعي، كمناضل ضد السطحية، وكحاملٍ لرسالة الفكر وسط دوامة الانحدار.

الصحافة ليست نقيضاً للجاذبية، بل هي منبع السحر الراقي الذي يخاطب العقل دون أن يتخلى عن متعة العرض. الصحفي الجاد لا يُحارب أدوات العصر، بل يوظفها لصالح رسالة سامية؛ يُعيد من خلالها التوازن بين الإثارة التي تجذب والانضباط الفكري الذي يُبقي.

في مواجهة طغيان التفاهة، يبقى الصحفي صوت العقل الأخير، يُعيد صياغة المشهد بحسٍّ من الجرأة والمسؤولية. هو وريثُ شجاعة المتنبي، الذي رفض الخضوع للسائد، وهو تلميذُ ابن قتيبة وابن الجوزي، الذي يفضح الزيف بأسلوب متين. اليوم، الصحفي مدعو إلى استعادة دوره كحاملٍ للواء الحقيقة، لا عبر التصادم مع الجماهير، بل من خلال تقديم البديل الذي لا يُشبع الرغبة فقط، بل يوقظ الفكر.

إن الصحافة، في أسمى تجلياتها، ليست مجرد مهنة أو وسيلة للعيش، بل هي رسالة حضارية. في زمنٍ تضيق فيه المساحات أمام العقل، وتُغرقنا التفاهة في بحرٍ من اللاجدوى، يبقى الصحفي الجاد حارس المعنى وموقد جذوة الفكر. سيادة العقل لا تُستعاد بالكلام، بل بالفعل الجادّ، وبالتزام صارم بأن تبقى الكلمة وسيلةً للارتقاء، لا أداةً للتسطيح.

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *