في عالم يتغنى فيه الجميع بمبادئ حقوق الإنسان، نجد بعض المنظمات الحقوقية الدولية تحول هذه المبادئ من أدوات للكرامة والعدالة إلى آليات للهيمنة والضغط على دول بعينها. هذه المنظمات، التي يفترض أن تكون صوتًا للحق، تمارس نهجًا استعلائيًا يعيد إنتاج خطاب استعماري مُبطن، يتعامل مع دول الجنوب وكأنها تفتقر إلى الشرعية والقدرة على إدارة شؤونها باستقلالية.
كما أشار يونس مجاهد رئيس اللجنة المؤقتة للصحافة و النشر، غالبًا ما تكون التقارير التي تصدرها هذه الهيئات محملة بأحكام جاهزة، تُبنى على انتقاء شهادات بعينها تُثبت سردية محددة سلفًا. هذا النهج لا يُظهر حقيقة المجتمعات أو الأنظمة التي يتم تناولها، بل يُكرس صورة نمطية متعالية تنظر إلى الدول النامية كمجتمعات قاصرة تحتاج دائمًا إلى الوصاية الفكرية والقانونية.
هذا التصور يجد جذوره في فلسفات إثنولوجية قديمة رافقت الحقبة الاستعمارية، حينما كان يُنظر إلى المجتمعات غير الغربية كـ”آخر” بدائي خارج التاريخ. رغم تطور هذه العلوم الإنسانية، إلا أن جوهرها لم يتبدد تمامًا. كما قال عالم الاجتماع إيمانويل والرستاين في خطابه بمؤتمر علماء الاجتماع: “لا المتحضرون متحضرون، ولا الآخرون آخرون. التبسيطات العنصرية للعالم الحديث ليست بغيضة فقط، بل تعيق تفكيرنا”. هذه الرؤية النقدية تجد صداها أيضًا في أعمال عالم الاجتماع إدوارد سعيد، الذي أظهر في كتابه “الاستشراق” كيف أن النظرة الغربية للشرق تقوم على بناء صور نمطية تهدف إلى تكريس الهيمنة الثقافية والسياسية، بدلاً من تحقيق الفهم المتبادل.
في هذا السياق، تصبح الدول النامية رهينة هذا الخطاب المزدوج. فبينما يُسمح للدول الغربية باتخاذ قرارات تنظيمية تُعدّ شرعية وحضارية، تُدان خطوات مماثلة في دول الجنوب على أنها تهديد للحريات. محمد نبيل بن عبد الله، وزير الاتصال المغربي السابق، ألقى الضوء على هذا الواقع عندما قال: “للأسف، حتى وإن تعرض وزير، وخاصة وزير العدل، لتشهير أو قذف من صحفي، فإنه لا ينبغي له اللجوء إلى القضاء، رغم أن ذلك حق مشروع له وتصرف حضاري. السبب في ذلك هو تفادي تقارير الهيئات الحقوقية الدولية التي تضر بالمغرب”.
هذا الاعتراف يكشف عن تناقض صارخ: حين يصبح التخلي عن الحقوق المشروعة ضرورة لتجنب الاستهداف في التقارير الدولية، تتحول حقوق الإنسان من مبدأ كوني إلى أداة لفرض الوصاية وتقويض السيادة الوطنية.
إن مواجهة هذا الترهيب الفكري تقتضي شجاعة في إعادة تعريف العلاقة بين الدول والمنظمات الدولية، عبر خطاب حقوقي متوازن يحترم القيم الإنسانية العالمية دون أن يسمح باستخدامها كذريعة للتدخل أو الابتزاز. كما أن هناك حاجة مُلحة لفضح هذه الازدواجية أمام العالم، انطلاقًا من منطلق أخلاقي يدعو إلى تجاوز ثنائية “المتحضرين والآخرين”. فالحقوق ليست امتيازًا يُمنح، بل هي جوهر إنساني واحد لا يُقبل تقسيمه وفق المصالح أو الأهواء.