بقلم نجيبة جلال
كان الفضاء الرقمي في بداياته حلمًا جامحًا من الحرية، مكانًا تتنفس فيه الأفكار بعيدًا عن قيود الأنظمة والمؤسسات. فضاء يعيد تشكيل العلاقات الإنسانية في أطر لا مركزية، ويمنح الأفراد القدرة على الإبداع والتفاعل والتأثير. لكن هذا الحلم بدأ يتلاشى مع مرور الوقت، ليحل محله نظام جديد من السيطرة البشرية في العالم الرقمي، بعيدًا عن نزاهة الآلات وحيادها.
اليوم، لم تعد السلطة الرقمية تدار وفق قوانين المنطق أو العدالة، بل تحت هيمنة نزوات البشر: طموحاتهم، رغباتهم في الشهرة، وحاجتهم للاستعراض. يكفي أن نلتفت إلى واقعة “ولد الشينوية”، ذلك اليوتيوبر المغربي الذي انتقل من الظل إلى الواجهة الرقمية، ليصبح بطلًا في عالم البوز، ثم ينقلب إلى متهم بالنصب والإخلال بالحياء. هذه الرحلة تكشف كيف تخلت السلطة الرقمية عن قيمها الأصلية، وكيف أضحى المستخدمون تحت رحمة نزوات وتوجهات البشر. في المقابل، نجد إيلون ماسك، صاحب إمبراطورية الفضاء والتكنولوجيا، الذي يعيد تعريف السلطة الرقمية بإهانة مستفزة، كما حدث مع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، حين حول اسمها إلى لفظ ينتمي إلى عالم الدعارة.
هنا لا يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي أو التكنولوجيا المتطورة، بل بالإنسان الذي يختار أن يكون هو سيد هذا الفضاء الرقمي، قاضيًا وجلادًا في آن واحد. ماسك و”ولد الشينوية” ليسا سوى وجهين لعملة واحدة: ديكتاتورية بشرية تستخدم الأدوات الرقمية لتصنع رموزًا ثم تسقطهم في هاوية التشهير أو العقاب. هذه ديكتاتورية لا تستمد قوتها من خوارزميات الآلات أو تقنيات الفضاء، بل من إرادة الإنسان في السيطرة على المشهد، وتحويل كل شيء إلى ساحة معركة من أجل السلطة.
إن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل سيكون إيلون ماسك عرضة لعقوبة كما حدث مع “ولد الشينوية”، الذي سُجن بتهم تتعلق بالنصب والإخلال بالحياء؟ هل سيجد ماسك نفسه في يوم من الأيام خلف القضبان كما فعل “ولد الشينوية” نتيجة إساءاته الرقمية؟ هذا السؤال يعكس الفجوة بين السلطة الرقمية والتطبيق الفعلي للقانون على الأرض.
الآلة، مهما كانت قوتها، تظل مجرد أداة. لا تطمح للسلطة ولا تسعى للانتقام، بل هي مجرد وسيلة بيد الإنسان الذي يستخدمها على هواه. في عالمنا الرقمي، سواء في المغرب أو في أي مكان آخر، لم نعد نواجه مجرد تساؤلات حول من سيهيمن – الآلة أم الإنسان – بل أصبحنا في مواجهة السؤال الأعمق: إلى أي حد سيستمر الإنسان في استغلال سلطته الرقمية ضد الآخرين، ومدى غياب المساءلة عن أفعاله في هذا الفضاء الواسع؟
إن الفرق بين “ولد الشينوية” و”ماسك” ليس في المال أو الجنسيات، بل في أن الأول يجسد ديكتاتورية الشهرة المحلية التي تبني قوتها على المشاعر السطحية والإثارة، بينما الثاني يعبر عن ديكتاتورية أفكار التكنولوجيا والسياسة التي تقتطع المساحات العالمية. لكن في كلتا الحالتين، يبقى الإنسان هو العامل الحاسم، هو المسبب في خلق الفوضى في عالم مفترض أن تكون فيه الآلة هي الأكثر حيادًا.
وربما تكون الآلة أكثر رحمة مما نتصور. فهي لا تملك الحقد ولا تميل إلى الإهانة أو الانتقام، في حين أن الإنسان، الذي يتحكم بها، لا يزال يعيد إنتاج استبداده بصور جديدة، حتى في أرحب فضاءات الحرية الرقمية.