من حق الدكتور محمد الطوزي أن يسخر من استقلالية المجلس الوطني للصحافة. الكثير من المتتبعين للشأن السياسي صدموا بدورهم لما علموا أن صاحب مؤلف “الملكية و الإسلام السياسي في المغرب ” هو الآخر من بين المعينين بالهيأة المكلفة بالبحث عن النموذج التنموي،و الأمر يتعلق بالأستاذ محمد الطوزي،و بعضهم تلقى الخبر بسخرية و استهزاء. و إن كان من حق هؤلاء أن يسخروا و ينتقدوا الأستاذ الطوزي فذاك لا يقلل من قيمته العلمية و المعرفية .لكن أن يتحدث هذا الأخير ضاحكا عن المجلس الوطني للصحافة فهذا لا يعني أن الرجل يمتلك الحقيقة ،و موقفه من المجلس الوطني للصحافة يعنيه شخصيا فقط ،و ربما قد يعني من يشاطرونه هذا الموقف أيضا.و هذا من حقهم أيضا.
إن المجلس الوطني للصحافة كهيأة جديدة، ذات طبيعة مثيرة و اختصاصات حساسة، من الطبيعي أن يكون موضوع متابعة عادية،و قد تكون هذه المتابعة حادة في بداية مشواره.بوادر هذه المتابعات الحادة ظهرت منذ تنصيبه،و اشتدت لما تم نشر القانون الداخلي للمجلس الوطني للصحافي الذي تضمن من بين ما تضمن مسألة تعويضات أعضائه.
لقد خلف نشر النظام الداخلي للمجلس الوطني للصحافة ردود فعل متباينة.هناك من اعتبر أن التعويضات لا تخرج على نطاق ما هو جاري به العمل،و هناك من رأى أنها أقل من التعويضات الممنوحة لمجالس و هيآت أخرى ،دستورية أو مهنية أو موضوعاتية. و آخرون اعتقدوا أن أعضاء المجلس لا حق لهم في أن يتلقوا تعويضا ،و من بينهم من وصف التعويض بمثابة ريع .
كل ردود الفعل هذه تبقى عادية و طبيعية،و قد تكون بعض الانتقادات أو المؤاخذات وجيهة و لا بد من الأخذ بها،بيد أن بعض الخرجات الإعلامية يكون من الأفضل عدم التعليق عليها لأنها تفتقد لقواعد النقد و التعبير عن الرأي.
من الآراء التي أثارت انتباهي ،و شجعتني في الحقيقة على المساهمة في هذا النقاش، هو رأي الباحث عزيز إدمين الذي نشره بموقع “الأول” تحث عنوان: “تعويضات أعضاء المجلس الوطني للصحافة و مبدأ الاستقلال المالي ” .
مسألة الاستقلال المالي
من حيث الاستقلال المالي ، إن الأمور كانت واضحة منذ المصادقة على القانون المنظم للمجلس ، و منذ تعميمه .كل الذين ترشحوا و تقدموا لانتخابات المجلس أو انسحبوا كانوا يعرفون أن المجلس سترصد له ميزانية مهمة و الجزء الأكبر منها سيأتي من ميزانية الدولة.هذا أمرعادي ،و جاري به العمل داخل و خارج المغرب.إن الدعم العمومي حق ،و كل هيأة تستحقه تستفيد منه ،و العديد من الهيئات إما تتهافت من أجل الحصول عليه أو تطالب بالزيادة فيه.هذا واقع ،ولا يعلى عليه إلا من لدن جاحد أو جاهل.
الطريق نحو الاستقلال المالي التام ، في الإعلام و السياسة و غيرهما ، هو إختيار وارد ،و البعض يعتقد أنه ممكن.لكن هل هو مقدور عليه عمليا؟و هل هناك من تجربة رائدة يمكن الاقتداء بها؟بمعنى آخر،ما اسم هذه الهيأة السياسية و النقابية و المدنية التي لا تستفيد من الدعم العمومي للدولة و تعتمد على جيوب منخرطيها؟ الصحافة الخاصة هي الأخرى،التي تزعم أنها مستقلة و حرة و مزعجة،هل لا تستفيد بدورها من الدعم العمومي؟. طبعا هذه الوقائع تسائل الجميع لأنها قد تؤثر على الاستقلالية الحقيقية لبعض الهيئات.
بارتباط مع هذه المسألة،لا بد من التنبيه إلى تركيبة المجلس الوطني للصحافة قبل أي مقارنة أو مبالغة في التعليق.المجلس هو هيأة أحدثت بموجب الدستور الذي نص بصراحة على تنظيم المهنة .و في التطبيق أو لما تقرر إنزال هذا التنصيص للواقع، و ضع قانون حدد من سيتولى هذه المهمة ، و لما توزعت الحصص على مكونات المجلس انطلق مسلسل التأسيس.
و لمن فاته النقاش الذي جرى قبل وضع الدستور الأخير و ما بعده، وجب التذكير أن مسألة استقلالية الإطار ،الذي ينتظر منه تنظيم المهنة، كانت مطروحة بقوة،و هذا النقاش أفرز في وقت سابق من بداية ألفين تأسيس هيأة مستقلة لتكريس أخلاقيات المهنة ، لم يكتب لها النجاح لعدة اعتبارات، في مقدمتها عدم القدرة على التطوع و على مواكبة الاجتماعات و بالأحرى إنجاز مهام الرصد و المتابعات و التقارير .
دائما في باب الاستقلال المالي،يعلم الجميع أن هيئات و منظمات و مراكز تتلقى ليس فحسب الدعم العمومي،بل تحصل على دعم أجنبي بطريقة من الطرق ،و ما أكثر أشكال هذه التنظيمات .
لذا ،إن ربط الاستقلال المالي بالاستقلال الفكري و التنظيمي هو موضوع فيه كلام كثير ،و أعتقد أن الحكم بخصوص مدى إحترام شروط الاستقلالية مرتبط في نهاية المطاف بالممارسة و الأداء و المواقف.
فهل تجربة المجلس الوطني للصحافة الجنينية تعطينا الحق للتقييم و بناء الاستنتاجات و استخراج الخلاصات؟ هذا سؤال.
في باب إصدار التقارير و نشر المعطيات
يلاحظ المتتبع لعمل المجلس الوطني للصحافة أن هذا الأخير ،و عبر بعض أنشطته و بياناته المحدودة،كان يشير لمسألة تعثر أعماله بسبب التأخير في الإفراج عن نظامه الداخلي.فمند تنصيبه،انشغل المجلس بعمليات نقل اختصاصاته من وزارة الاتصال ،و انشغل أيضا بوضع منهجية جديدة لمسألة منح البطاقة المهنية .و قبل هذا و ذاك ،اهتم المجلس بعمليات هيكلة لجانه التي ينص عليها القانون المنظم.و موازاة مع ما ذكر،انشغل المجلس بمهام البحث عن مقر و تجهيزه و الشروع في وضع إطاره الإداري،فضلا عن إجراءات تدبيرية و إدارية .بمعنى أن المجلس مارس بعض المهام في إطار ما يسمح به القانون ،و بقيت مهام أخرى ، و ربما هي الأهم ، بدون إنجاز لارتباطها أساسا بوجود نظام داخلي.
اليوم ، و بعدما استكمل المجلس الوطني للصحافة كل المقومات القانونية للإشتغال،عليه أن يسرع من وتيرة عمله ليتدارك ما ضاع بسبب تأخر المصادقة على نظامه الداخلي،و أكيد أن المجلس سينشر ما التزم به عدة مرات،كقائمة الصحافيين المهنيين الذين منحوا البطاقة المهنية،و للتنبيه إن هذه عملية منح البطاقة المهنية تتطلب جهدا مضنيا سيما خلال السنوات الأولى.و على المجلس أيضا أن يصدر تقريره السنوي ، و سبق لرئيس المجلس في عدة مناسبات أن طمأن الجميع بأن المجلس سيصدر هذا التقرير السنوي و بارتباط معه سيقدم حصيلة عمله خلال ما مر من زمن وجوده.
معنى هذا أن الوقت سيكون مواتيا أكثر لتقييم التجربة ، و ستكون المعطيات متوفرة للقيام بهذه العملية.
في هذا السياق ، لا أخفي سرا إذا قلت بأن أداء المجلس الوطني للصحافة كان حاضرا لدى الأجهزة القيادية للنقابة الوطنية للصحافة المغربية ،و ربما قبل أي أحد.و أظن أن أعضاء و قياديي النقابة سيواصلون الاهتمام أكثر،أولا ،بأداء المجلس،و ثانيا، بأداء أعضاء ممثلي النقابة داخل المجلس،و هذا ما ألحت عليه مداولات و بيانات النقابة.
و غني عن البيان أن المجلس خاضع للمراقبة من طرف مكوناته،و من لدن من يمثل السلطة التنفيذية ،و خاضع لمراقبة المجلس الأعلى للحسابات.و في هذا الإطار يمكن أن يترتب الجزاء على المؤسسات الصحافية التي قد تتهاون في أداء مساهمتها المالية للمجلس.
تعويضات أعضاء المجلس و رواية أوجه المقارنة مع هيئات أخرى
كمتتبع لمسلسل إحداث المجلس الوطني للصحافة،لم تكن قضية تمويل المجلس غائبة عن المهتمين بالموضوع،و نفس الأمر بالنسبة لتعويضات الأعضاء.و بعيدا عن الطوباوية، إن هذا المعطى لم يكن سرا من أسرار الدولة،و قد لا أبالغ في القول أن حق الاستفادة من التعويضات لم يكن هو الآخر غائبا عن مخيلة جل المتنافسين، بل كان حاضرا، و هناك من راهن عليه قبل و بعد تنصيب المجلس .
نعم ،هناك من لم تنل منه، نسبيا، جاذبية التعويضات،و هناك من هو في غنى عن تلك التعويضات،و لديه انشغالات أخرى،لكن واقعيا لا بد للمجلس أن يتمتع بدعم عمومي في المستوى ليتسنى لأعضائه إنجاز مهامه بشكل مهني ،و لكي يستجيبوا لانتظارات المهنة و المهنيين و باقي مكونات المجتمع.و حق على من وضعوا ثقتهم في التركيبة الحالية للمجلس أن ينتقدوه و يحاسبوه لما يتطلب الأمر ذالك.
هذا ديدن باقي المجالس و الهيئات التي تتلقى دعما عموميا ،و يستفيد أعضاؤها من تعويضات تفوق ما يرصد للمجلس الوطني للصحافة .
القول بشكل تلقائي و عفوي ،و حماسي حتى، بأن هذه التعويضات غير مستحقة و تدخل في إطار ما يسمى بالريع فيه كلام ،حتى لا أقول مبالغة. بالنسبة للريع،ليس في علمي أن هذا المصطلح تغير من حيث المدلول،و لا علم لي بأن هناك معاجم و مجمعات أدخلت مفهوما جديدا لمصطلح الريع،الذي هو عكس ثنائية العمل الذي يقابله أجرا ،بمعنى أنه عندما أتقاضى دخلا غير مستحق،بدون أن أعمل ،فذاك يدخل في نطاق الريع.و ينطبق الأمر جليا على من يحسبون على وظائف وهمية و يتلقون أجورا تكون أحيانا خيالية،و من المال العمومي.و ينطبق أيضا عل من تمنح لهم امتيازات في إطار الزبونية، كرخص الاستغلال و المأذونيات و يتلقون أموالا مقابل كرائها…
تتوزع الميزانية المخصصة للمجلس،حسب فهمي المتواضع، على أبواب تتعلق بالتجهيز و الدراسات و التكوين وباقي الأنشطة التي تدخل ضمن اختصاصات المجلس،و جزء من هذه الميزانية يصرف كتعويضات قانونية و مبررة.
فهل هناك من لديه الإستعداد و القدرة على إنجاز مسؤوليات داخل أي مجلس من المجالس المحدثة، في إطار التطوع أو مقابل تعويضات رمزية؟. هل هناك من يقوم بعمل إضافي في مجال الإعلام و الرصد و التنشيط و الاستشارة و التحليل بالمجان و في سبيل الله؟ أكثر من هذا، هل كل من ينتقدون المجلس اليوم حول التعويضات،و يترافعون حول التضحية ،و يتظاهرون بالغيرة على المهنة و المهنيين،هل كل هؤلاء برهنوا ذات يوم عن علو كعبهم في مجال النضال العملي من أجل الحرية و الكرامة ،و ضد التعسف و الطرد و مضايقات العمل النقابي؟هل كلهم شاركوا في التضامن الفعلي مع هؤلاء الضحايا.
مرة أخرى،أقول علينا التروي في إصدار الأحكام و التيه في انتقادات غير واقعية.
كما قلت سالفا،إن الحديث عن الاستقلال المالي و عن الاكتفاء بصرف تعويضات رمزية للمعينين أو المنتخبين ،أو النشطاء داخل هيأة ما ، هو اختيار آخر ، و يمكن المرور إليه.الأخذ بهذا الاختيار يعني أيضا إحداث قطيعة مع نماذج المجالس القائمة مثلا و الاعتماد على الذات .
مرة أخرى،أذكر بأن نقاشا معمقا جرى داخل النقابة الوطنية للصحافة المغربية حول طبيعة المجلس الوطني للصحافة، من حيث اختصاصاته و مهامهه و تركيبته و تمويله.و الكثير من المهتمين تابعوا النقاش الذي نظمته النقابة عدة مرات حول الموضوع، بشراكة مع عدة فعاليات و هيئات،بما في ذلك الاستفادة من تجارب دولية في مجالات تنظيم المهنة و تكريس أخلاقيات المهنة.
إن إحداث المجلس الوطني للصحافة لم يأت بناء على فراغ،بل جاء نتيجة تراكمات امتدت لسنوات.و بما أن حرية الصحافة و مسألة أخلاقيات المهنة ليستا حكرا على الصحافيات و الصحافيين،و لما وقع إجماع على أن المجتمع بكل مكوناته معني بحرية الصحافة و بأخلاقياتها،كان من الطبيعي أن تأتي تشكيلة المجلس على ما هي عليه الآن، مركبة من الصحافيين المهنيين،من الناشرين،و من ممثلين عن هيئات أخرى وازنة لها صلة بالإعلام و حرية الصحافة.
طبعا ،لا يمكن مقارنة المجلس الوطني للصحافة بهيئات منظمة لمهن أخرى،كالأطباء و المهندسين و المحامين.هذه هيئات مستقلة خاصة بالمهنيين العاملين في كل قطاع،و لا يسمح بأن ينظم لها من هم خارج المهنة.إضافة إلى هذا، تكون العضوية إجبارية و نفس الأمر بالنسبة للمساهمة المالية.
فهل الجسم الصحافي،كما هو عليه الحال الآن، قادر على تنظيم ذاتي للمهنة في شكل هيأة تحتكم للإنتخابات و تعتمد على المساهمة المالية للمهنيين؟. هل الصحافيات والصحافيون قادرون على توفير التمويل الكافي من جيوبهم ؟هذا تساؤل كان مطروحا و ما زال قائما.
على سبيل الخلاصة
برأيي، إننا إزاء تجربة حديثة ،مهما اختلفت رؤانا حولها، تبقى مكتسبا قابلا للتطوير، و علينا أن نرعاه و نساعده بالتتبع و الاقتراح و النقد البناء.و لدي قناعة أنه متى توفرت الإرادة ،فإن هذا التوجه قابل لكي يتحقق ،سواء في عهد التركيبة الحالية للمجلس و من قبل من سيأتي مع الولاية القادمة.فمن يطلق اليوم العنان للنقد عليه أن يتحمله غدا عندما تسند له و لمحيطه مهمة تسيير هذا المجلس.
أعرف العديد من الزملاء و الزميلات سبق وأحبطوا ،و أصيبوا بالخيبة،عندما كانت النقاشات جارية ،في عدة محطات تتعلق بمصير المهنة و المهنيين، و كان هناك غياب ملحوظ و غير مبرر للكثير من الصحافيين و الصحافيات و لفعاليات أخرى. و موازاة مع النقاشات وجهت دعوات و نداءات للمشاركة في نقاش حول موضوع ما و تقديم مقترحات بخصوصه،لكن القليل هو من استجاب.و من بين المواضيع التي فتح حولها نقاش موضوع أخلاقيات المهنة ،و القليل هم من لبىوا الدعوة و ساهموا في إغناء مشروع ميثاق أخلاقيات المهنة.
إن الدفاع عن حرية الصحافة ، عن المهنية و عن أخلاقيات الصحافة ، هي معركة كبيرة ،في حاجة إلى منسوب كبير من الثقة،إلى المشاركة البناءة،إلى التكتل ،إلى الوحدة و التضامن . ما عدا ذلك ،من مناوشات و افتعال معارك صغيرة و تافهة، لا يخدم في آخر المطاف مصلحة المهنة و المهنيين.
*من مؤسسي فرع الدارالبيضاء للنقابة الوطنية للصحافة المغربية في نهاية الثمانينيات و بداية التسعينيات،و عضو المكتب التنفيذي لولايتين إلى حدود المؤتمر السابع في يونيو 2019 .