متابعة
يستكشف فيلم “بارثينوب” (Parthenope ـ 2024 ـ 135 دقيقة) من إخراج الإيطالي باولو سورينتينو (Paolo Sorrentino) نسيج مدينة نابولي الغني، من خلال سرد معقد تتشابك فيه الهوية الشخصية والثقافية. ويغوص المخرج في قلب هذه المدينة، مدققا في تفاصيل جمالها ونضالاتها، ويومياتها الصاخبة وسحرها الفريد.
راكم المخرج باولو سورينتينو في تجربته الفنية والمتعددة سينما تعكس أسلوبه الفريد في السرد والتصوير السينمائي.. سينما تعتمد على عناصر متعددة تجعلها أكثر تميزا وفرادة. لدى المخرج الإيطالي أسلوب بصري مميز وسردي خاص يشمل عددا من العناصر المشتركة في معظم أعماله الفنية: “الجمال العظيم” (2013) و”الشباب” (2015) و”يجب أن يكون هذا هو المكان” (2011) و”الديفو” (Il Divo) (2008) و”عواقب الحب” (2004) و”صديق العائلة” (2006) و”هم” (2018) و”بارثينوب” الذي عرض في مهرجان (كان السينمائي نسخة 2024).
المخرج معروف بأسلوبه البصري الجذاب والذي يعتمد على استخدام الإضاءة الطبيعية والتكوينات الفنية الرائعة. التصوير السينمائي في أفلامه ليس مجرد وسيلة لنقل القصة؛ بل هو جزء من السرد نفسه، يساهم في خلق الأجواء وتعزيز الشعور بها. في العديد من أفلامه نتتبع هيكل سرد غير خطي، مما يسمح له بالتنقل بين الماضي والحاضر والمستقبل بسهولة. يساعد هذا الأسلوب في استكشاف الشخصيات بشكل أعمق وتقديم حبكات متشابكة ومعقدة بقدر كبير من التركيب. تمتاز شخصيات أفلامه عادة بالتعقيد والتعدد في الأبعاد. سواء كانوا سياسيين، فنانين أو أفرادا عاديين، فإن الشخصيات تعيش غالبا تجارب داخلية وخارجية تتحدى الوضع الراهن وتبحث عن معنى أعمق للحياة. كما تلعب الموسيقى دورا حيويا، حيث تعمل على تعزيز العواطف والمشاهد البصرية. ويستخدم غالبا مزيجا من الموسيقى الكلاسيكية والمعاصرة لخلق جو مناسب لكل مشهد. أفلامه مليئة بالاستعارات البصرية والرموز التي تضيف طبقات من المعنى للسرد الفيلمي، هذه الاستعارات تساعد في تعميق الفهم للأحداث والشخصيات وتضيف عنصرا من التأمل الفلسفي.
تشمل أفلامه مواضيع متكررة؛ منها البحث عن الهوية، الرغبة في الشهرة والاعتراف، والبحث عن الجمال والمعنى في الحياة. هذه المواضيع تظهر في أفلام مثل “الجمال العظيم” و”الشباب”، حيث يستكشف الشخصيات هذه المسائل بطرق مختلفة. يركز المخرج على العلاقات الإنسانية؛ وهو جزء أساسي من أفلامه، حيث تكون العلاقات بين الشخصيات عادة معقدة ومتناقضة، مما يعكس تعقيدات الحياة نفسها.
وتتمحور قصة فيلم “بارثينوب” حول امرأة تدعى بارثينوب، وهي شخصية تجسد روح نابولي نفسها. يتابع السرد رحلتها عبر شوارع المدينة المتعرجة، حيث تلتقط المشاهد كل من الرهافة والقسوة في ذات البيئة. تلعب بارثينوب الممثلة الموهوبة (سيليست دالا بورتا)، التي تقدم أداء مؤثرا وقويا. من خلال عينيها، نشهد تحول المدينة وفضاءاتها وتأثيرها على سكانها.
تتميز الشخصيات في فيلم “بارثينوب” بالتطور والغنى، كل واحدة تمثل جوانب مختلفة من المدينة. يقدم غاري أولدمان أداء رائعا في دور إنزو، مغني الأوبرا السابق الذي يكافح مع مجده المتلاشي. نضاله مع الهوية والأهمية هو انعكاس مؤثر لتطور المدينة نفسها. تلعب ستيفانيا ساندريلي دور لوتشيا، الأم الطاعنة في السن التي تمثل القوة الدائمة والمرونة للنساء النابوليات. مشاهدها مع بارثينوب مؤثرة بشكل خاص، حيث تبرز الرابط بين الأجيال وانتقال التراث الثقافي السلس.
يتناول فيلم “بارثينوب” التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها نابولي كتجمع سكني موسوم بتاريخية معقدة ضد السلطة، مقدما تصويرا واقعيا لصراعات مريرة للمدينة. لا يخجل الفيلم من إظهار الصعوبات واللامساواة والتفاوتات الصارخة الموجودة؛ ولكنه يفعل ذلك بشعور من التعاطف والأمل. هذا التصوير المتوازن يضمن أن يبقى الفيلم واقعيا، بينما يحتفل أيضا بروح النابوليين التي لا تقهر.
يستكشف الفيلم مواضيع مثل الذاكرة والهوية والمرونة بعمق؛ مما يجعل الجمهور يتفاعل معها بشدة. فيلم “بارثينوب” هو رسالة حب إلى نابولي، يحتفل بتاريخها وثقافتها وشعبها.