الآتي بعيوننا ولكل العيون!
كسنين عُمره في التشخيص، استرسل واستفاض في فصول الحكي، كان محمد خيي سخي الكلمات…
مرّ من المغرب إلى المشرق، عبْر البحرين( الأطلسي والمتوسطي)، وعبَر عُباب الصحراء المغربية بأدوار متخيلة مرجوة موعودة.
يحلم أن يلتقي بابن بطوطة، ويوسف بن تاشفين، والمولى اسماعيل، في قصور الأمراء وعلى بلاط القلاع المُحصنة…
درعه في مهنته؛ صُحبة عميقة لشخصياته، وفراق سريع بعد لذة الانتصار…
في “جنان الكرمة” حبه الأول والأخير، هائم في سرد الأيام، وفي شجن الوجوه، وفي موسيقى المجتمع ونبضاته…
تراثي يُقدّر التاريخ، يراه حاضرا لأجل التدوين البصري بروح مغربية…
هو بالمقتضب محمد خيي، رفيق الراحل البسطاوي، ووراث همّه، الذي لا تكفيه أو تفيه كلمات،…
دون ذلك… “العرّاب” يخطب وده الآن…
بين الصور…
“سلمات أبو البنات”، تجربة في تلفزيون ليس مغربيا… هل كان إيذانا ببروز آخر أم رهاناً؟
أولاً، يجب عليّ أن أشتغل! فحين أطالع سيناريو عملٍ فني، مكتوب بصورة جيدة، وفيه شخصية سأتقمصها وستترك أثراً للمشاهد وستطبع مساري الفني، لن أتردد مُطلقاً!
وثانيا لنُبين عن مستوانا وعن علُوِّ كعبنا لجماهير أخرى عربية، فقط لتعرف أين هي الدراما المغربية على طريق الفن…
وبالمُختصر، في ” سلمات أبو البنات”، أعجبني السيناريو، أحببت الشخصية، أحسست بارتياح عارم، ومن هناك أيقنت أن سلمات سيُخلّف صدى طيباً لدى المشاهد المغربي المغاربي، والعربي سيّان.
وبالعودة لقناة “ام بي سي 5″، من منظوري، هي قناة يمكنُ أن تُعرّف أكثر بالدراما المغربية، وأين وصل الفن المغربي، وليس فقط اسم محمد خيي.
وستمنح كذلك مساحةً للتنافس بين القنوات، وهو بالطبع تنافس شريف، وهذا أمر جيد للغاية، ويصُبّ في صالح الدراما المغربية والفنان المغربي على حد السواء.
هي فُرصة كذلك لرسم صور تعريفية لدى المشاهدين المشارقة عن المبدعين المغاربة، في الدراما كانوا أو في المسرح أو التلفزيون.
وفي ظني، أن كل هذا لن يُعرّف فقط بالفن والفنانين المغاربة، بل بالمغرب كبلد حلّ صداه في كل بقاع العالم، وفي العالم العربي والإفريقي تخصيصاً، فنياً ودون الفني.
هو باب آخر مفتوح…
ونحن نعلم- هنا- قوة الدراما وما تُظهره من ثنايا كل مجتمع، بدءً من تقاليده وعاداته، إلى معاملاته وواقعه، والإنسان المغربي ليس استثناءً، والمجتمع المغربي قطعة من لوحة.
المغرب بلد جميل جداً! يستحق أن يبرُز في الطليعة على الصعيد الدرامي، والفني عموماً.
السلم والسلام الذي نعيش في كنفه، بيئة خصبة لكل مبدع ليولد أفكاره…
المسلسلات تُبين كثيرا من الجانب السياحي للبلد، فعلى سبيل المثال، مسلسل صُوّر في مراكش، يمنح فكرة عن المدينة ولو أن إشعاعاً عالميا لها، في جبالنا الأطلسية كذلك، في صحرائنا كذلك.
هي ديكورات طبيعية، هو تنوع لا يخدم الفن فقط، بل السياحة والاقتصاد وما جاورهما.
شخصية “المختار سلمات” أبو البنات الثلاث، صورة أب مغربي أم مشرقي الفكر والهوى؟
أبدا! هو أب مغربي مائة بالمائة…
في الإمكان؛ أن يكون في المشرق آباء من هذا الفصيل، لكن، من الطبيعي ألا يكونوا بنفس الشكل المغربي.
حسب ظني، علاقة الأب مع بناته، عربياً، في الغالب كتلك…
في الوهلة الأولى، ” سلمات” يبين كيف يتعامل بصرامة مع بناته، لكن في الآن نفسه بكامل الحب، هو كأي أب يتمنى مستقبلا مشرقا زاهراً لبناته، أن يكنّ في بيتهن الزوجي صُحبة أبنائهن، ولأبناءه الذكور ذلك يتمناه…
هذا الأب مغربي( المُختار سلمات)، أتعلم لماذا؟
سأحكي لك موقفاً مرّ عابراً قبل مجيئك ببضع دقائق:
[كُنت جالساً مُرتكنا في الطابق السفلي لمقهى الشانزليزيه… ثلاثُ أخواتٍ كنّ يجاورنني، يبدو أنهُنّ عائلة واحدة.
هنّ من مدينة تزنيت، وقصدنني بقول:
– لا نستطيع أن نستمع لأغنية المُسلسل، لأن أبانا مات في ذاك الحين… كنا نشاهد المسلسل، وفي صورة سلمات تتهيأ صورة الأب، بنفس معاملته…]
شيء جميل جدا أن يحدُث ذلك! ودونهُن كثير عشن الموقف عينه على اختلاف التفاصيل… عائلات هي وآباء هم قابلوني، واشتاقوا لذاك الأب الذي اندثر وبقي منه قليل…
( يبتسم… نبرة حنين)
أبٌ حياته بُنيت على أسرته فقط، وقد شاهدنا كيف كان يعامل زوجته
باحترام، وحب، وتآخي، وتآزر، وتعاون.
كل هذه القيم جميلة جدا، إن حضرت في الأسرة، فكأنها حضرت في المجتمع ككل، وزرعها في الأسرة كزرع الحب في البلد كله..
في الشخوص…
الراحل محمد البسطاوي، مرادف للواجب والصداقة والرفقة هل في قوة حضورك واجب لغيابه؟
أولا هو واجبي تُجاه نفسي، لأنني أؤمن بقولة” رحم الله من عمل عملاً فأتقنه”، لذلك أبذل قصارى جهدي دوماً ليكون عملي مُتقناً، أُخرج كل ما بداخلي من طاقة، وأحاسيس ومشاعر جياشة، لأكون وفيّا لذوق الجمهور المغربي، وكي أمنح نتاجاً في مستوى تطلعه، قد يَنفعُه هو، ويحرّكه إنسانياً ونفسياً…
وفعلا، الراحل محمد البسطاوي أتذكره على الدوام بأشياء كثيرة…كيف كنّا نتحدث عن تطور الدراما المغربية؟ عن صيتها في العالم العربي؟ كانت هذه همومُنا، كنا نحن الاثنان نحملها لأجل نهوض الفن والدراما والسينما والمسرح تشخيصاً وإخراجاً… كله للارتقاء بالدراما المغربية على الأصعدة العربية كافة.
كنت أشاطره هذه الأشياء كلّها، وكل واحد يبذل ما بوسعه من موقعه…
لو أن الراحل محمد البسطاوي بقي الآن، لكان الوضع مختلفا، خصوصاً إن اجتمعنا في عمل ما، لأنني أرتاح للُقياه كثيرا، وهو أمر متبادل، كان سائداً بيننا تفاهم قوي في الأداء، وكنا على بيّنة من خلق شخصيات جديدة لم يألفنا المتفرج فيها.
أمنيتي -صدقاً- هي أن أبلُغ ما كان يطمح إليه، أن أحقق ما كان يحلم به ويرجوه في التشخيص المغربي، في الدراما المغربية كذلك.
معروف في المسرح، أن الحيلة في اللعب بالأعمار سهلة جائزة، ألا يمارس محمد خيي هذه الحيلة اللطيفة في التلفزيون والسينما؟ اللحية تسعفك أليس كذلك؟
كنت مُلتحيا أو أشيب اللحية، أو كيفما كُنت، إن لم تُخرج كل التعابير من عمق أحاسيسك، فربما ذلك لن يفي بالغرض.
محمد خيي الذي يُجالسك الآن بلحيته هو نفسه، لكنّ العلامة الفارقة تتجسد في عُمق الشخصية وبُعدها، في حركاتها، في تركيبتها النفسية، في ردود فعلها حسب كل موقف تعيشه، فمثلا رد فعلي في وضع غاضب لا يُشبه تماماً ضحكي أو في صورة متسامحة، يعني كل هذه الأشياء ليست ملكاً لي، فقط أُقرضها ذاتي كاملةً.
إن لم يكن هذا العمق وهذا الصدق في الأداء، فستبدو لحيتي كأي لحية، زينة للوجه فقط، فلن تثير أدنى انتباه!
ما يعكس حقا صورة العمر، هو البحث المجدُّ المستمر في علاقتك مع شخصيتك، وباقي علائقها مع باقي الشخصيات، والنتيجة تكون شخصية أخرى، المهم لست أنا…
ولا أخفيك أن مشاكل ” المختار سلمات” فيها شيء من مشاكلي، فأنا أبٌ كذلك، ولي ابنتان، لكن المختار ليس أنا، وليس محمد خيي الذي يحادثك اللحظة!
وهذا هو مبحثي؛ محمد خيي على الشاشة، ليس محمد خيي في الشارع؛خارجاً… وكله سائر على كل الشخصيات، “العربي بن داود” في “قضية العمر”، أو القايد في “جنان الكرمة”، فليس مهما ما ألبسه أو اللحية التي تعلو وجهي، وأحاول دوما أن “ألبَس أنا اللباس، لا أن يلبسَني”…
هذا اللباس من أين لك استلهامه؟ من صور المجتمع؟
شخصيةٌ وما أرادت أن ترتدي لها من ألبسة وأزياء.
المُكلّفون يقترحون اللباس، لكن لكل زي طريقته، فمن قبيل الأمثلة، للسلهام هيبته ومشيته الخاصة، والشأن ذاته للخُف( البلغة)، أو الحذاء الرياضي، والقُبعة الشمسية ليست كالعمامة… البذلة الأنيقة لا تُشبه سروال الدجينز…
وماذا عن اللباس الداخلي للشخصية؟
إنه هو، الأهم في الحلقة!
اللباس الخارجي لك حرية الخيار والاختيار، لكن الداخلي هو الذي يعكس كل شيء، اللباس الخارجي دونه لا ينشد شيئاً.
لكل شيء في هذا العالم آخرُ يوازيه، يحدث ذلك في الفن أيضا، من يوازيك في مهنة التشخيص عالمياً؟ أي اسم يَقْرُبك؟
صعبٌ الجزم! ولا قول فصل لي.
لكن قد أقول إن في زمرة الممثلين العالميين من يُعجبني، ربما لأنني أتأثر بهم بفعل المشاهدة المواظبة…
” مارلون براندو” أقول!
شاهدته دونما مرة، أراقبه بعين تفصيلية، أتفحص حركاته، ولمساته الزائدة على كل شخصية يتقمصها برصانته تلك، نظراته إلى عين الكاميرا…
في مسلسل “جنان الكرمة، وفي دور القايد بالتحديد، اقتبست منه شيئا، حاكيت نبرة صوته واتزانه، وقلت لنفسي حينها: إن كان للسينما العالمية” عراب”، فنحن كذلك لا بد أن يكون لدينا عراب بصغية مغربية…
وأضيف للقائمة، “روبرت دي نيرو”، ” جين هاكمان” وأسماء أخرى من فطاحلة التمثيل.
ومن زاوية أخرى، وللإضافة، الاستلهام والتوازي، يأتيان حقيقة من قلب المجتمع الذي أعيش فيه، وبطبعي دقيق الملاحظة ولمّاح… ويحضرني دوما أستاذنا، عباس إبراهيم- رحمه الله- بقوله” الممثل يجب أن يكون دقيقا في ملاحظته، أن يرى الناس كيف تتحرك، كيف تتحدث مع بعضها”، وأردف؛ أن يستمع لجرس الأصوات وموسيقاها ونغم الألسن واللهجات، أن يُثقل ذاكرته ومخيلته بالأحداث والدروس والوقائع، كيف يتمشون ربما، فمثلا مشيتك ليست كمشيتي، وهلم جراً…لكل شخص سمات تخصه هو فقط.
هذا هو الممثل…
في الزمان وفي التاريخ…
شخصية جسدتها ولم تغادرك، تحضرك حيناً وأحياناً…من تكون؟
بصدق، أظل أتذكرهم طيلة الوقت… ولا بد من التذكر، لأنني لا أحب أن أتقمص شخصية، وفي غفلة، تتسلل معالمها- نفّاذةً- لشخصية أخرى، لا أحب أن أكون عبداً لشخصية ما!
مباشرة بعد العمل أودعها…مهنتي هي مشخص فقط.
لكن شخصية القايد في ” جنان الكرمة” هي التي أحببتها والناس جميعاً، فمن عاشوا تلك الحقبة التاريخية وما كان يسودها، لما شاهدوا المسلسل، صدّقوه وأقسموا لي أن القُياد كانوا تماماً كذلك، بذات المشية وذات المعاملة، ولا أخفيك أن كل ذلك شاهدته في ألبومات صور، وفي أشرطة وثائقية، وفي أرشيف احتفالات عيد الاستقلال المبثوثة في التلفزيون، عموماً أشاهد بدقة وأتشبّع بتلك الصور، وبالطبع توجيهات المخرجة المقتدرة فريدة بورقية آنذاك.
وفي مرتبة ثانية، شخصية ” قضية العمر” التي عاشت أكثر من ثلاثة عقود في ردهات السجن ظُلماً، دون ذنب يُذكر، فيبادرك السؤال، كيف سيشعر معك الجمهور بثقل اللحظة، وكيف ستتركه يتعاطف مع الشخصية أم لا؟ الأهم في ذلك أن تبدي له مُر الظلم وقسوته على الإنسان.
متى يكون المشخّص( الممثل) حُراً، في نظرك؟
يجب أولاً أن يكون حُرّاً، ألا يبقى رهينة لشخصية ما وأسيراً لها، وحقيقته ليست في شخصياته بل في شخصه الحقيقي في حياته الاجتماعية.
وأعطي مثالا حقا ب” سلمات”، فحين فرغت منه، نشرت كلمة على فيسبوك كأنني أُخاطبه، وقلت له شكراً جزيلا سلمات، فقد كنا صديقين ورفيقين، وأنا أُحبك بشدة، لكن آن الأوان وحان الفراق، اعذرني سلمات.
ونحن على مقربة من تصوير الجزء الثاني، وقبله سأطلب الصفح والعفو منه، وسيقع الصلح لنلتقي من جديد في عهد الصداقة.
أدوار كثيرة متباينة شخصتها، أي دور تنتظره ولم يأت بعد؟
أتوق للعب أدوار شخصيات تاريخية، أرجو من الدراما المغربية أن تولي بعضا من الاهتمام للشخصيات التاريخية، التي طبعت تاريخ المغرب، ومن الأسماء: يوسف بن تاشفين، المولى اسماعيل، ابن بطوطة ورحلاته العجيبة، وغيرهم…
هي شخصيات وجب علينا أن نصورها في أعمال، لا أن نتتظر مخرجين أجانب، من دول أخرى لإنتاجها، لماذا لا نتطرق لتاريخنا نحن، فكلما عرضنا تاريخنا، كلما عرّفنا به للأجيال القادمة واللاحقة، ليعرفوا تاريخ أجدادهم، وأسهل طريق هو العمل الفني المصور، في زمن ضعُفت فيه المطالعة والقراءة، وحلت محلها الشبكات الاجتماعية والإنترنت.
هو أمر بمثابة قراءة للتاريخ بالصور…
هذا ما أطمح له، هذا ما أتمنّاه!
فكما عرفنا نحن تاريخ وعادات سوريا ولبنان ومصر عن طريق الفن، ربما لهم نصيب لمعرفة تاريخنا وعاداتنا.
ومن الشخوص أيضا التي أحلم بها، هم المقاومون، الذين حاربوا المستعمر وقدّموا حياتهم وضحوا بالغالي والنفيس من أجل أن يكون المغرب على ما عليه الآن… هو اعتراف وتكريم لهؤلاء المقاومين.
ولي رغبة أخرى تخالجني، هي أداء شخصية البحار، لدينا متوسطي وأطلسي وكم هما جميلان في مشهد، وصحراؤنا المغربية أيضا تستحق منا مسلسلات على أرضها، تُظهر حقيقة أن الصحراء مغربية وتُظهر البيعة التاريخية للملوك والأمراء المغاربة، فالدراما لها هذا الدور القوي.
في زمن الوباء…
مسلسل “البيوت أسرار” الذي يصور حاليا، مخرجه علاء أكعبون وصفه بعودة لمسلسلات ” ليالي الحلمية”، لن أعيش في جلباب أبي”… هل لك بصيص من هذا الحلم فيه؟
ما يمكنني أن أقوله هو أن مسلسل البيوت أسرار، جمع وجوهاً، وفيه عنصر تشويق كبير، تحت إدارة مخرج شاب، يتمتع بطاقة هائلة.
نتمنى أن نكسب الرهان وأن يحبب العمل الجمهور المغربي في دراما فنه.
بالنهاية، محمد وخيي وكورونا… ما القول؟
لا أدرك ما أقول!
هل كسائر المغاربة، أو كباقي الفنانين، أو كعموم الناس في العالم.
وباء خطير، حصد أرواحاً، منهم أصدقاء أعزاء، منهم فنانون، صحافيون…الرحمة عليهم.
وخبر التلقيح هو بشرى لنا، في ظل تخوف رهيب وسط الجميع، ونتمنى أن نضاعف صبرنا أكثر، ومزيدا من الحذر للخروج بأقل خسارة.
نتمنى أن يزول كل هذا وأن تعود الحياة لطبيعتها.
يظهر من وجوه الناس أنهم مرتاحون، لكن حقيقتهم أنهم ليسوا بمرتاحين داخليا ونفسيا، حتى وإن ابتسموا!