نجيبة جلال
في تحكمه القدرة على الإدراك و القدرات الذهنية، يجد العقل البشري نفسه دائمًا في صراع مع رغبة فطرية لفهم الأحداث وتفسيرها. هذه الرغبة تجعل الإنسان يبحث عن أنماط وتفسيرات حتى في غياب الأدلة.
و لكن عندما يفتقد الفرد للقدرة على التشخيص بغياب آليات التحليل و الفهم، تتوجه بعض العقول إلى ابتداع نظريات المؤامرة حيث لا توجد إلا أوهام. هذه الظاهرة النفسية التي يسميها العلماء “إدراك النمط الوهمي” ، و التي تعكس قدرة العقل على تشكيل واقع بديل يبرر الفشل والإخفاقات.
يشير مفهوم إدراك النمط الوهمي إلى ميل العقل لرؤية أنماط حيث لا توجد، مما يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن هناك مؤامرة تحاك ضدهم، حتى وإن كانت الأدلة غير موجودة. هذا الميل مرتبط بمرض نفسي يُعتبر أحد أشكال التحيز الإدراكي. فالعقل الذي يبحث عن معنى للأحداث التي تحيط به قد يقود صاحبه إلى تصديق تفسيرات غير منطقية وغير مبنية على أسس واقعية.
هذا الداء يعكس ضعفًا في القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو وهمي، ويبرز بوضوح عندما يجد الفرد نفسه في مواجهة فشل شخصي أو مهني. فعندما يعجز الشخص عن مواجهة الحقيقة القاسية لفشله، يلجأ إلى نسج قصص حول مؤامرات تحاك ضده لتفسير إخفاقه. هذه النظرة الوهمية للواقع تسمح له بتجنب مواجهة عيوبه والاعتراف بها، مما يؤدي إلى مزيد من الانغلاق على ذاته.
يرى علماء النفس أن الذين يعانون من وهم التفوق، وهو اعتقادهم المبالغ فيه بقدراتهم ومعرفتهم، هم الأكثر عرضة لتبني نظريات المؤامرة. هؤلاء الأفراد يميلون إلى تضخيم قدراتهم بسبب عدم قدرتهم على تقييم أنفسهم بدقة، مما يؤدي بهم إلى الاعتقاد بأنهم محاربون من قبل قوى خفية تسعى لإفشالهم.
هذا الميل يتمثل فيما يُعرف بـ “تأثير دانينغ-كروجر”، الذي يصف ميل الأشخاص ذوي القدرة المحدودة إلى المبالغة في تقدير مهاراتهم، بينما يقلل الأشخاص الأكفاء من تقدير مهاراتهم بسبب وعيهم بمدى تعقيد المعرفة. يعجز الأشخاص الذين يقعون في فخ تأثير دانينغ-كروجر عن إدراك عيوبهم الخاصة، مما يجعلهم أكثر عرضة لخلق تصورات وهمية حول مؤامرات تعرقل نجاحهم.
ما يجعل إدراك النمط الوهمي خطرًا هو أنه يشوه الواقع ويحول الفشل إلى قضية خارجية لا يستطيع الفرد التحكم فيها. بدلاً من مواجهة الحقيقة ومحاولة تحسين الذات، يختبئ هؤلاء الأفراد وراء ستار من الوهم، محاولين إقناع أنفسهم والآخرين بأن هناك قوى خارجية تقف ضدهم.
هذا التحيز الإدراكي يؤدي إلى انعدام قدرة هؤلاء الأشخاص على إدراك الإدراك نفسه، وهو ما يسميه علماء النفس بـ “انعدام القدرة على إدراك الإدراك”. بدون هذه القدرة، يبقى الفرد غير قادر على تقييم ذاته بشكل عادل، مما يرسخ لديه اعتقادات خاطئة ويبعده عن الحقيقة.
لا يقتصر ابتداع نظريات المؤامرة على الأفراد العاديين فقط، بل يمتد إلى مجالات حساسة مثل الإعلام والسياسة. نجد أن بعض السياسيين والإعلاميين الذين يفشلون في تحقيق أهدافهم يلجؤون إلى هذه النظريات لتبرير إخفاقاتهم. في حين أن الحقيقة قد تكون ببساطة أنهم لم يتخذوا القرارات الصحيحة أو لم يتمتعوا بالمهارات اللازمة، فإنهم يفضلون إلقاء اللوم على مؤامرات غير موجودة.
على سبيل المثال، في المغرب، نجد بعض السياسيين الفاشلين داخل بعض الأحزاب الكلاسيكية التي لازالت غارقة في ترديد خطابات سنوات السبعينات، يبررون فشلهم في الوصول الى أماكن صناعة القرار السياسي، بالدولة العميقة أو المخزن. هذا التبرير يعكس عجز هذه الأحزاب عن مواكبة التغيرات والتكيف مع المتطلبات الجديدة للمشهد السياسي.
أيضا، هناك أمثلة من بعض النشطاء والصحافيين الذين يبررون فشلهم الشخصي أو المهني عبر اختلاق قصص عن مؤامرات تهدف إلى إسكاتهم أو تدمير حياتهم. بعد قضاء مدة عقوبتهم أو الإفراج عنهم، يحاولون إيهام الرأي العام بأنهم ضحايا مؤامرات، وذلك لتجنب مواجهة الحقائق المحيطة بفشلهم.
إدراك النمط الوهمي وتحول الفشل إلى نظرية مؤامرة يعكس ضعفًا في القدرة على مواجهة الحقيقة وتحمل المسؤولية. إنه داء نفسي يتغذى على عدم القدرة على إدراك الذات، مما يجعل صاحبه يعيش في عالم من الأوهام والخيال. إن الاعتراف بهذه الحقيقة والعمل على تجاوزها هو السبيل الوحيد لتحرير العقل من قيود الوهم والانفتاح على واقع قد يكون أكثر تعقيدًا ولكنه بالتأكيد أكثر واقعية.