باحدة عبد الرزاق
أعادت واقعة التحرش الجماعي بفتاة طنجة نقاشات الحريات الفردية وتقبل الاخر الى الوجود بشكل أكثر حدة بين الرافضين لهذا السلوك الهمجي، الذي أبان عن خلل عميق في منظومة التربية والاخلاق لدى هؤلاء المراهقين الطائشين، وبين أصوات متشددة معروفة بعدم تقبل الاختلاف التي تحمل المرأة مسؤولية ما تتعرض له من اعتداءات.
إن المشهد الذي وثقته عدسة أحد الشهود، والذي أظهر مجموعة من المراهقين يعتدون على شابة في الشارع العام، يكشف عن خلل عميق في النسيج الاجتماعي والمنظومة القيمية. فالصورة المروعة لمجموعة من المراهقين من بين بينهم مراهقة تهاجم شابة بطريقة وحشية، محاولين تجريدها من ملابسها، تعيد إلى الأذهان مشاهد من عالم الحيوان خصوصا طريقة هجوم الضباع البرية أكثر منها من مجتمع إنساني متحضر.
ما يزيد الأمر إثارة للقلق هو مشاركة مراهقة في هذا الفعل المشين، مما يشير إلى أن المشكلة أعمق من مجرد صراع بين الجنسين. إنها أزمة قيم وتربية تمس جميع شرائح المجتمع، ذكورا وإناثا على حد سواء.
لقد أثارت هذه الحادثة، كما هو متوقع، موجة من ردود الفعل المتباينة على منصات التواصل الاجتماعي. وكالعادة، انقسم الرأي العام بين من يحمل الضحية مسؤولية ما تعرضت له بحجة لباسها “غير المحتشم”، وبين من يرى في ذلك تبريرا غير مقبول لفعل إجرامي لا يمكن تبريره تحت أي ظرف.
إن هذا الانقسام في الرأي العام يعيد إلى الأذهان جدلا مماثلا أثير في عام 2015 حول قضية “التنورة” في إنزكان. ويبدو أن المجتمع المغربي، رغم مرور السنوات، لا يزال يعاني من استقطاب حاد حول قضايا الحريات الشخصية وحقوق المرأة.
ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن بعض الأصوات الحقوقية قد حذرت من خطورة تحميل المرأة مسؤولية ما تتعرض له من تحرش، معتبرة ذلك “خبلا ذكوريا” يصر على إلقاء اللوم على الضحية. غير أن هذا الطرح، رغم وجاهته، قد يؤدي إلى تعميق الهوة بين الجنسين وتحويل القضية إلى صراع بين الرجال والنساء، مما قد يعيق الوصول إلى حلول جذرية للمشكلة.
في المقابل، نجد أن بعض التيارات الدينية المتشددة تحمل المسؤولية للفتاة، معتبرة أن لباسها هو السبب في إثارة الشباب والرجال. وهنا يجدر التساؤل: لماذا لا نرى مثل هذه الردود من أتباع هذه التيارات تجاه لباس النساء في المجتمعات الغربية التي يعيش فيها الكثير منهم؟ أليس في ذلك تناقض صارخ يكشف عن ازدواجية في المعايير؟
إن معالجة ظاهرة التحرش والعنف ضد المرأة تتطلب نهجا شموليا يأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل المساهمة في المشكلة. فمن الضروري إعادة النظر في المنظومة التربوية والتعليمية لضمان غرس قيم احترام الآخر وقبول الاختلاف في نفوس النشء. كما يجب التصدي لخطاب الكراهية والعنف الذي ينتشر على منصات التواصل الاجتماعي، والذي يغذي الأفكار العدوانية لدى الشباب.
إن المغرب، وهو يستعد لاستضافة فعاليات رياضية دولية كبرى مثل كأس أفريقيا وكأس العالم، ويسعى لزيادة عدد السياح الوافدين إليه، لا يمكنه تحمل استمرار مثل هذه السلوكيات المشينة. فهي لا تهدد فقط سمعة البلاد وطموحاته التنموية، بل تقوض أيضا النسيج الاجتماعي وتهدد التماسك المجتمعي.
لذا، فإن الوقت قد حان لمعالجة هذه المشكلة من جذورها. وهذا يتطلب جهدا جماعيا يشمل جميع مكونات المجتمع. فعلى المؤسسات التعليمية تكثيف برامج التوعية حول احترام الحريات الشخصية وحقوق الإنسان. وعلى وسائل الإعلام أن تلعب دورا توعويا بدلا من تأجيج الصراعات. كما يجب على المشرع مراجعة القوانين لضمان حماية أفضل للضحايا وردع المعتدين.
إن بناء مجتمع آمن ومحترم للجميع هو مسؤولية مشتركة. فلنجعل من هذه الحادثة المؤسفة فرصة للتغيير الإيجابي، ولنعمل معا على خلق بيئة اجتماعية تحترم التنوع وتصون كرامة جميع أفرادها، وتعود بالمغرب إلى ثقافته الأصلية المبنية على الاحترام وتقبل الاختلاف والتنوع، بغض النظر عن الجنس أو اللباس أو المعتقدات. فقط بهذه الطريقة يمكن للمغرب أن يستمر في تحقيق طموحاته في أن يكون وجهة عالمية جاذبة، ونموذجا يحتذى به في احترام الحريات وحقوق الإنسان.