أوروبا والأزمة المتعددة

أوروبا والأزمة المتعددة

- ‎فيواجهة, مقالات رأي دولية
0
مقالات راي دولية
إكسبريس تيفي

متابعة

يتحدث المقال عن التحديات المتعددة التي تواجهها أوروبا في القرن الحادي والعشرين، مع التركيز على الأزمات المترابطة مثل التغير المناخي والأزمات الديموغرافية والديمقراطية. يبرز المقال أهمية تطوير رؤية استراتيجية شاملة تتضمن التعاون بين الدول وتقديم حلول مبتكرة للتعامل مع هذه الأزمات، بالإضافة إلى الحاجة إلى مؤسسات قوية وقادرة على التكيف مع الظروف المتغيرة. كما يشدد على ضرورة التأسيس لنموذج تنظيمي جديد يستند إلى المرونة والتعاون الدولي لتحسين الاستجابة للأزمات وتحقيق التنمية المستدامة في القارة الأوروبية.

بقلم: توماس بوبرل

جنيف ــ كل فترة تاريخية تتحدد وفقًا لتحديات تخصها. فبعد الحرب العالمية الثانية، كان لزامًا على أوروبا أن تجد وسيلة لإنهاء الأزمات المتكررة والمستقلة نسبيًا المرتبطة بدورات السوق، والسياسة الداخلية، والمنافسة بين القوى العظمى التي مزقتها لعقود من الزمن. واجهت أوروبا هذا التحدي من خلال بناء دول قومية مستقرة وأنظمة رعاية اجتماعية فعّالة في سياق من الأطر الأوروبية والدولية القوية.

منذ مطلع هذا القرن، كانت أوروبا تواجه تحديًا جديدًا: الاستجابة لأزمة متعددة شديدة التعقيد، تتألف من مجموعة واسعة من الأزمات المترابطة. وقد تكون أكثر هذه الأزمات كارثية في حد ذاتها، بسبب عمليات معززة للذات وتراكمية، مثل نقاط التحول في تغير المناخ وتأثير كرة الثلج في الدين العام.

ولكن لا شيء من هذه الأزمات يتكشف في فراغ. بل على العكس من ذلك، تتفاقم الأزمات المترابطة اليوم وتعزز بعضها بعضًا. على سبيل المثال، تعمل الأزمة الديموغرافية على زعزعة استقرار دولة الرعاية الاجتماعية، وتقويض الرفاهة الاقتصادية، والذي بدوره يغذي الانقسامات الاجتماعية والسياسية. ومن الممكن أن يساهم أي انحدار كبير ودائم في التماسك الاجتماعي والسياسي في أنواع أخرى من الأزمات، مثل الأزمة الديمقراطية الليبرالية الحالية، في حين يعوق قدرة الدول على الاستجابة لتهديدات أخرى، مثل تغير المناخ.

لقد ساهم الفشل العام في معالجة الأزمة المتعددة المتصاعدة بشكل فعّال في الشعور بالهلاك الوشيك بين عامة الناس الأوروبيين الذين يشعرون بالعجز على نحو متزايد. لكن المخاطر التي تهدد وجودنا، من الصراع المسلح إلى تغير المناخ الكارثي، يمكن التغلب عليها ــ ليس “باستعادة السيطرة”، كما يَعِد الزعماء السياسيون الشعبويون، بل من خلال تعلم السيطرة على ما لم نسيطر عليه بعد.

تميل مؤسساتنا السياسية والمالية والدولية إلى أن تكون مصممة لإدارة الأزمات الدورية المعتادة من الماضي، الأمر الذي يجعلها غير مؤهلة للاستجابة للأزمة المتعددة الحالية، والتي تتطلب القوة والمرونة. وتواجه أوروبا تحديًا إضافيًا هنا: فمؤسساتها، التي تعتمد على الإجماع، والاتساق، والتسوية، تناضل للتعامل مع مصالح ضيقة معقدة ومتنوعة.

ولكن كما أن أوروبا هي الأكثر احتياجًا إلى التحول المؤسسي لتلبية التحديات التي تهدد وجودها اليوم، فهي أيضًا مجهزة بشكل خاص لإنجاز ذلك التحول، بفضل خبرتها الكبيرة في التطور عبر الأزمات والموازنة بين التضامن والحرية. يتلخص المفتاح في تكوين رؤية واضحة للمستقبل، وتعميق التعاون في المجالات الرئيسية، وابتكار إطار تنظيمي جديد.

لنبدأ هنا بالرؤية. الواقع أن أوروبا في احتياج إلى استراتيجية واضحة في التصدي للأزمة المتعددة تعمل على تنسيق الآفاق الزمنية على النحو الذي يُفضي إلى تحسين إدارة الأزمات في الأمد القريب (يشكل هذا ضرورة أساسية لكسر آليات الأزمات المعززة لذاتها) وتحديد أهداف مشتركة بعيدة الأمد (وهو أمر ضروري للحفاظ على الزخم).

ينبغي لوحدات أصغر حجمًا، وأكثر استقلالية ومرونة، أن تكون مسؤولة عن تنفيذ هذه الرؤية، بالتعاون مع قوى فاعلة مستقلة ــ من المجتمع المدني غالبًا ــ تتخصص في بناء الإجماع، وتطوير استراتيجيات طويلة الأجل، ومراقبة تنفيذها والتأثيرات المترتبة عليها. وتشكل ثقافة الحسم والمساءلة ضرورة أساسية.

ينبغي للمقوم الأبعد أمداً في هذه الرؤية أن يعكس طموحًا جيليًا. رسمت الهند، على سبيل المثال، خريطة طريق لتصبح اقتصادًا متقدمًا بحلول عام 2047، بعد قرن من استقلالها. وتخطط الصين لتحقيق “التجديد الوطني” بحلول عام 2049، الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية الشعبية. وينبغي لأوروبا أن ترسخ استراتيجيتها حول عام 2045، بعد مائة عام من بدايتها الجديدة في أعقاب أهوال الحرب العالمية الثانية. في ابتكار هذه الرؤية الجديدة، ينبغي لأوروبا أن تتعلم من مواطن القوة لدى الآخرين؛ على سبيل المثال، قدرة أميركا على التفكير الاستراتيجي، والتي تجسدت في عمل وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة في برامج البحث والتطوير المرتبطة بالتكنولوجيات الناشئة.

تتمثل الحتمية الثانية في بناء أطر جديدة قوية تغطي ثلاثة من عناصر الأمن الأوروبي الحاسمة: التمويل، والدفاع، والرفاهة الاجتماعية. يجب أن يكون هدف البنية المالية الجديدة زيادة الاستثمار في أوروبا من أجل تعزيز الإنتاجية ودعم الإبداع التكنولوجي في القطاعات الحيوية. ونظرًا لقاعدة مستثمريها الأصغر حجمًا وتفتتها البنيوي، فإن هذا يتطلب أن تعمل أوروبا على تحسين أدائها فيما يتصل بتخصيص رأس المال وحشد المدخرات بكفاءة. وينبغي أن يكون استكمال اتحاد أسواق رأس المال المهمة الرئيسية التي تضطلع بها المفوضية الأوروبية الجديدة.

أما عن الدفاع، فقد كشفت حرب أوكرانيا عن اهتزاز وبطء بنية أوروبا الحالية. والحاجة ماسة إلى إطار عمل جديد ــ قادر على التعامل مع المشتريات على مستوى القارة، ودعم التشغيل البيني بين قوات الأمن، وإعطاء أوروبا ميزة تكنولوجية.

على نحو مماثل، لابد وأن يكون التصميم الجديد للرعاية الاجتماعية متماسكًا، وقابلًا للاستمرار ماليًا، ومستجيبًا لاحتياجات المجتمعات الحديثة. في العقود الأخيرة، سمحت أوروبا لفجوات الالتزامات والتمويل بالنمو في مجموعة من المجالات ــ بما في ذلك الرعاية الصحية، والإسكان، والتعليم، والطاقة ــ بسبب الافتقار إلى الإجماع بشأن الهيئة التي ينبغي أن تكون عليها دولة الرفاهة الحديثة. ولأن حماية أسلوب الحياة الأوروبي تشكل ضرورة أساسية لتعزيز التضامن الاجتماعي في الأمد البعيد، فإن هذا من غير الممكن أن يستمر.

تتمثل حتمية أوروبا الثالثة وهي تواجه الأزمة المتعددة في ابتكار نمط تنظيمي جديد، يقوم على المرونة، والقدرة على التكيف، والتفويض الوطني. يجب أن يكون التصدي للقضايا انطلاقًا من المستوى الذي تنشأ عنده. وتتطلب التحديات العالمية ــ مثل تغير المناخ، وانتشار الأسلحة النووية، والذكاء الاصطناعي، والاستقرار المالي ــ تعاونًا دوليًا أفضل تنسيقًا وتنظيمًا.

تشمل التحديات التي ينبغي التعامل معها على مستوى الاتحاد الأوروبي تحديث النموذج الاقتصادي الأوروبي، وتعزيز الإنتاجية والقدرة التنافسية، والتعامل مع السياسة التجارية. ومن جانبها، يتعين على الدول القومية أن تعمل على تعزيز التضامن، وأن تتولى مع المجتمعات المحلية تنفيذ سياسات ملموسة. كما يشكل التعاون بين القطاعين العام والخاص ضرورة أساسية، من أجل الاستفادة من خبرة الشركات، ودرايتها، وقدرتها المؤسسية على التكيف وإدارة المخاطر والاستجابة للأزمات.

وينبغي للنموذج التنظيمي الجديد أن يبدو أشبه بالشبكة وليس السلسلة، لأن قوة الشبكة هي مجموع عقدها، في حين لا تزيد قوة السلسلة عن قوة أضعف حلقاتها.

إن أوروبا لا تملك ترف تأخير العمل إلى ما بعد الصدمة التالية. وإذا كان لنا أن نتجاوز الأزمة المتعددة، فنحن في احتياج إلى التأمل الاستراتيجي، والزعامة الجماعية، والتفكير خارج الصندوق اليوم، مسترشدين بالطموح المشترك المتمثل في “إعادة تأسيس أوروبا” بحلول عام 2045.

ترجمة: إبراهيم محمد علي

Translated by: Ibrahim M. Ali

توماس بوبرل الرئيس التنفيذي لشركة أكسا (AXA).

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *