لطالما شكلت الوطنية الاقتصادية حجر الزاوية في نهضة الأمم وتطورها. فالتاريخ مليء بنماذج رجال أعمال لم يروا في المال غايةً بحد ذاته، بل وسيلة لتعزيز رخاء بلدانهم وتقوية استقلالها الاقتصادي. هؤلاء هم رجال الاقتصاد الوطنيون الذين وضعوا خدمة الوطن فوق كل اعتبار، فكانوا بمثابة بُناة حقيقيين لاقتصادات بلدانهم، بينما سعى آخرون، في المقابل، إلى تحقيق مصالح ضيقة، مؤثرين الربح الشخصي على مصلحة المجتمع.
من أبرز الأمثلة في هذا السياق، طلعت حرب في مصر، الذي أسس بنك مصر وأطلق سلسلة من المشاريع الصناعية والتجارية التي رسّخت دعائم اقتصاد وطني مستقل. حرص حرب على توظيف المال والاستثمار في خدمة بلده، بعيداً عن السيطرة الأجنبية، ممهداً الطريق لنموذج ناجح من الشركات المحلية التي تخدم تطلعات الشعب المصري وتلبي احتياجاته الاقتصادية.
وفي بريطانيا، نرى مثال توماس ليبتون، مؤسس إمبراطورية “شاي ليبتون”، الذي لم يكتف بتطوير شركته، بل سعى لتحسين ظروف العمال ودعم الطبقات الشعبية، معبراً عن فهم عميق لدوره الاجتماعي والوطني. هذا النوع من رجال الأعمال لم يتوقف عند تحقيق الربح، بل أدرك أن نجاح أي مؤسسة ينبغي أن يسير جنبًا إلى جنب مع ازدهار المجتمع الذي ينتمي إليه.
كذلك الحال في الولايات المتحدة، حيث شكّل هنري فورد نموذجاً رائعاً في تطوير قطاع السيارات من خلال إطلاق نظام تصنيع مبتكر جعل السيارات متاحة لشرائح أوسع من المجتمع، وساهم في تحسين حياة المواطنين، فضلًا عن خلق آلاف الوظائف للأمريكيين. هذا الابتكار لم يجعل من الولايات المتحدة مجرد منتج للسيارات، بل قادها إلى أن تصبح مركزًا صناعيًا عالميًا متقدمًا ومستقلًا.
أما في المغرب، فقد برز في عهد الملك محمد الخامس ثم الملك الحسن الثاني رجال أعمال وطنيون أسهموا في ترسيخ أسس اقتصادية راسخة، مثل الشرايبي وبناني سميرس، الذين استثمروا في قطاعات استراتيجية كالزراعة، البنوك، والصناعة، ساعين إلى خدمة تطلعات بلدهم نحو الاكتفاء والتنمية المستدامة. كان لهؤلاء رواد الأعمال دور كبير في بناء الاقتصاد المغربي وتدعيم استقلاله، بعيداً عن التدخلات الأجنبية.
اليوم، يقف رجال الأعمال المغاربة على مفترق طرق تاريخي، خاصة مع وجود عدد منهم في الحكومة الحالية. هذه المشاركة ليست مجرد تشريف، بل مسؤولية تتطلب منهم إثبات صدق انتمائهم للوطن. بإمكانهم الآن أن يساهموا مباشرة في اتخاذ القرارات الاقتصادية التي تحدد مسار المغرب وتساهم في رفاهية الشعب. هذا الدور يتيح لهم فرصة فريدة ليكونوا جزءًا من تحول اقتصادي وطني، في زمن تتسارع فيه التحديات وتزداد فيه احتياجات المواطنين.
فإما أن يثبتوا أنهم حقًا رجال اقتصاد وطنيون، يدفعهم التزامهم بخدمة المغرب، ويسعون لتحسين حياة المواطنين وخلق فرص حقيقية للتنمية، أو أن يستسلموا لإغراءات الاحتكار والمصالح الضيقة، وهو ما سيجعل التاريخ يسجلهم كأصحاب مصالح ضيقة. النسخة الثانية من الحكومة الحالية تشكل فرصة تاريخية لرجال الأعمال المغاربة في الحكومة؛ ليختاروا بين أن يتركوا إرثاً وطنياً عميقاً، أو أن يظلوا أسيري أرباحهم المؤقتة.