متابعة
تتميز رقصة “تاسكيوين”، المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي اللامادي في السادس من دجنبر سنة 2017، بطابعها “القتالي” الفريد، وبتجذرها في نطاق جغرافي محدود جدا داخل بعض الدواوير المتناثرة في أعماق الأطلس الكبير الغربي.
وتكمن أهمية هذه الرقصة في تنوعها اللافت، حيث يؤديها الممارسون بما يقرب من خمس رقصات، و31 إيقاعا، و40 ضربة متباينة، ويتحرك الراقصون على إيقاعات الطبول والمزامير، مشكلين بذلك دائرة مغلقة كرمز للوحدة والقوة.
ويجسد الراقصون من خلال حركاتهم سيناريو معركة حربية، بدءا من الاستعداد للقتال، ثم المباغتة والانقضاض على العدو، والقفز فوق الحواجز، وركوب الخيل، وتعقب الأثر، إلى جانب المراوغة والمصارعة وصولا إلى لحظة الاحتفال بالنصر وإعلان هزيمة العدو.
وتستمد رقصة “تاسكيوين” تسميتها من أداة “تيسكت” أي “قرن خروف” بالأمازيغية، والذي يشحن بمسحوق البارود، ويثبت على الكتف الأيسر ليربط بشريط أحمر على أزياء الراقصين البيضاء إلى جانب الأحزمة المزركشة.
لذلك غالبا ما يربط بعض المؤرخين ظهور الرقصة بفترة دخول البارود إلى المغرب، حيث كانت تضطلع “تاسكيوين” بوظائف اجتماعية وسياسية، خصوصا في تعزيز التحالفات بين القبائل، إلا أن باحثين آخرين، يعتقدون أن تاريخ الرقصة أقدم من ذلك، وأن استخدام البارود مجرد إضافة ظهرت في مرحلة لاحقة، لا سيما وأن الرقصة تتشابه، من حيث وظيفتها، مع رقصات مغربية أخرى مثل “الهيث” نواحي تازة و”عبيدات الرما” في الهضاب الوسطى و”الركادة” في الجهة الشرقية، وغيرها.
ومن جانب آخر، يجمع الممارسون والباحثون على أن رقصة “تاسكيوين” تكتسي صعوبة بالغة تجعلها مختلفة عن باقي أنواع الـ “أحواش”. فهي تتطلب تعلما مستمرا منذ الصغر، تحت إشراف مسن متمرس يتقن تفاصيلها الدقيقة، لضمان إتقان الحركات المعقدة والخطوات والإيماءات المميزة للرقصة، والتي ينبغي أداؤها بتسلسل دقيق مع التركيز الجيد لتجنب أي نشاز.
وعلى خلاف الأنماط الأخرى من رقصات “أحواش”، يكاد يغيب عن “تاسكيوين” ترديد الشعر الأمازيغي، فحضوره في ختامها، كما يرى بعض الباحثين، لا يتعدى كونه وسيلة للتذكير بالالتزامات وتسليط الضوء على أهمية التحالفات بين القبائل.
وقد أدى زوال الوظائف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأصلية للرقصة إلى انحسارها في مجال محدود جدا، هذا ما دفع المجتمع المدني بتنسيق مع مديرية التراث الثقافي التابعة لوزارة الثقافة إلى التحرك وإعداد ملف الترشيح، ليتم تسجيلها من قبل اللجنة الدولية الحكومية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو خلال اجتماعها بجمهورية كوريا الجنوبية سنة 2017 على لائحة التراث الثقافي اللامادي الذي يحتاج إلى صون عاجل.
وقال أستاذ الأنثروبولوجيا والتراث الثقافي بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، أحمد سكونتي، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن تسجيل الرقصة في قوائم التراث لليونسكو يمنحها شهرة وإشعاعا أكثر كتراث ثقافي لامادي، وأولى تمظهرات هذا التأثير الإيجابي، تنعكس في زيادة عدد المجموعات الممارسة في الأطلس الكبير الغربي وإحياء الممارسة في مناطق أخرى كانت الرقصة فيها على وشك الانقراض.
وأوضح الخبير لدى اليونيسكو في التراث الثقافي، أن الفائدة المتأتية من التسجيل رهين بما تقوم به المجموعات الممارسة والجهات المعنية بما فيها الجماعات الترابية ووزارة الثقافة، لصون الرقصة.
وأكد سكونتي أن “وزارة الثقافة أشرفت على إعداد التقرير الإجباري بعد أربع سنوات من التسجيل، أي في 2022، مشددا على ضرورة الانكباب على التقرير الثاني الذي يجب تقديمه لليونسكو سنة 2026 في أفق سحب “تاسكيوين” من قائمة الصون العاجل، مع إمكانية تقديم ملف لإدراجها في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي اللامادي للإنسانية”.
وتصف وزارة الشباب والثقافة والتواصل هذا الرقص “القتالي” على موقعها الرسمي على الانترنت أنه “رمز لتاريخ البلاد وتراثها”، حيث دأبت منذ سنة 2021 على تنظيم مهرجان خاص بــ”تاسكيوين” في مدينة تارودانت، بمشاركة العديد من الفرق الممارسة وذلك بغية خلق موعد سنوي يجمع الفرق الممارسة لـهذه الرقصة في المنطقة.
وفي تصريح مماثل، أكد رئيس جمعية “تسكيوين أفلا إيزداتن آيت بخاير”، الحسين الباز، أنه على الرغم من الاهتمام الكبير الذي حظيت به رقصة “تاسكيوين” بعد إدراجها ضمن قائمة التراث اللامادي لليونسكو، إلا أن انخفاض مشاركة بعض الفرق في السنوات الأخيرة يعكس ضرورة تقديم دعم أكبر وتحفيز مستمر لضمان استمرارية هذا الفن وانتعاشه.
وأبرز السيد الباز، أن ضمان استمرارية هذه الرقصة يتطلب إشراك الناشئة وتعليمهم هذا الفن، وهو ما تعمل عليه فرقته التي تتكون معظمها من الشباب، مع إتاحة الفرصة أيضا للأطفال للمشاركة في عروضها، بما يعزز من استدامة الرقصة وانتقالها بين الأجيال.
ودعا إلى مضاعفة الجهود لتشجيع الفرق الممارسة وضمان حضور أوسع لهذا التراث.
ومن جانبه أوضح عضو جمعية تاركا، التي كانت وراء التنسيق لإدماج “تاسكيوين” ضمن اليونيسكو، محمد مهدي، أن الثقافة والتراث يعتبران من أدوات التنمية الترابية، حيث أن التراث غير المادي يؤخذ بعين الاعتبار في إعادة تقييم الرأسمال البشري، مذكرا بأن اليونسكو تعتبره من عوامل التنمية المستدامة.
وأشار ذات الفاعل المدني إلى إمكانية تحول رقصة “تاسكيوين” إلى “مورد إقليمي”، وتكون بذلك بمثابة رافعة للتنمية الترابية، لافتا إلى أن خطة حماية رقصة “تاسكيوين” تتضمن إضفاء الطابع المؤسسي على المهرجان في تارودانت، على غرار مهرجان كناوة في الصويرة، لجعل هذه الرقصة علامة تجارية للمدينة (City branding) مما سيزيد من إشعاع تارودانت ويعود عليها بمنافع اقتصادية كبيرة.
وخلص السيد مهدي، إلى أن رقصة “تاسكيوين” لن يكون بمقدروها أن تكون أداة للتنمية إلا إذا تم الحفاظ على جودة حياة الممارسين ومجتمعهم، مع تطوير أنشطة اقتصادية واجتماعية في تلك المناطق.
وتواجه “تاسكيوين” اليوم على غرار العديد من الأشكال الثقافية اللامادية المغربية الأخرى، عدة تحديات لعل أبرزها تنميطات العولمة والتخلي عن هذه التراث بالإضافة إلى انقطاع التلقين بين الأجيال الملمة بالمهارات الفنية والصناعات المرتبطة بها والأجيال الجديدة التي تتطلع إلى جعل “تاسكيوين” موردا يسهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفنا يجولون به العالم للتعريف بغنى الثقافة المغربية.