بقلم: يونس مجاهد
لم تكن المقالات الصحافية كافية لتحليل وتفنيد الأطروحات غير العلمية التي دافع عنها بعض أفراد اليسار الأوروبي في دعمهم للمخطط الفرانكوي-الجزائري في قضية الصحراء المغربية. بل يتطلب الأمر دراسات معمقة تستند إلى الأرشيف الغني بالوثائق، سواء في المغرب أو في بلدان مثل إسبانيا وفرنسا. هذه الوثائق توفر مادة علمية وفيرة تكشف عن زيف مزاعم خصوم الوحدة الترابية للمغرب. هناك أيضا طرق أخرى يمكن أن تكون مجدية في التصدي لهذه الأطروحات، مثل قراءة ما يكتبه المدافعون عن هذا المخطط، علميا. من خلال هذه القراءة، توصلت إلى نتيجة مناقضة لما يدعون، وهو ما أطلق عليه “برهان الخُلْف” في قضية الصحراء.
في المنطق وعلم الرياضيات، يعتبر برهان الخلف (أو “الاستدلال بالتناقض”) وسيلة لإثبات صحة نظرية معينة من خلال إثبات أن نقيضها يؤدي إلى نتيجة غير صحيحة. وهذا بالضبط ما توصلت إليه عندما تابعت الأطروحات التي تروج لدعم مخطط انفصال الصحراء المغربية، إذ تبين لي أن معظمها مليء بالأخطاء والمغالطات التي يمكن من خلالها دحض هذا الطرح.
من بين النصوص التي استخدمت هذا المنهج النقدي، ندوة “علمية” نظمتها العصبة الفرنسية لحقوق الإنسان في ضاحية ماسي بباريس في 1 و 2 أبريل 1978. كانت هذه الندوة التي خرجت في كتاب بعنوان “الصحراء الغربية، شعب وحقوقه”، تجمع عددا من أساتذة العلوم الإنسانية الفرنسيين اليساريين الذين قدموا أطروحات حول هوية “الشعب الصحراوي”. ومن المثير أن أحد المشاركين، الأستاذ فرانسيس دي شاسي، استهل عرضه بالإشارة إلى أن العديد من الأحكام التي سيقدمها بشأن “نضال الشعب الصحراوي من أجل تقرير المصير” كانت جاهزة مسبقا، وهو ما يكشف عن انحياز مسبق وعدم رغبة في التعمق في البحث والتحليل.
في محاضرته، تناول شاسي الوضع القبلي في الصحراء، لكنه استخدم مفهوم “العصبية” كما ورد عند ابن خلدون، لكنه حرفه بشكل غير دقيق ليخدم أجندته السياسية. فقد اعتبر أن العصبية تعني مسؤولية القبائل الصحراوية عن الأمة العربية الإسلامية دون وساطة دينية أو زمنية، مما يعني محاولة طمس الروابط التاريخية والدينية بين قبائل الصحراء والسلطة المركزية في المغرب. وهذا تحريف فاضح لمفهوم العصبية الذي يعني بالأساس التضامن بين أفراد القبيلة وليس تبني سياسات الانفصال.
مغالطات أخرى كانت في الندوة التي تهدف إلى “إثبات” خصوصية “الشعب الصحراوي”. طرحت أفكار عن اللغة الحسانية، والنظام الاجتماعي مثل “السيبة” و”الجماعة”، لكن هذه المكونات ليست دليلا على خصوصية هذا “الشعب” بقدر ما هي جزء من التنظيمات الاجتماعية الشائعة في مناطق واسعة من المغرب. وهذه مغالطات يمكن لكل دارس في علم الاجتماع أن يراها بسهولة. كما ارتكبت هذه الأطروحات خطأ فادحا عندما اعتبرت أن السيادة على الأرض هي المعيار الوحيد لإثبات السيادة، وهو مفهوم غربي لا يمكن تطبيقه على السياق المغربي، حيث كانت السيادة، ولا تزال، على السكان بشكل أساسي.
هذا النوع من التفكير الخاطئ وجد صداه في كتابات أخرى، مثل كتاب أحمد بابا مسكي، الموريتاني من مؤيدي جبهة البوليساريو، الذي نشر كتابه “البوليزاريو روح شعب” في نفس السنة. فيه قدم مسكي رواية مشوهة لتاريخ المنطقة، مهاجما جيش التحرير المغربي وموضحا تواطؤ قوى استعمارية ضدهم. لكنه، على الرغم من اعترافه بتأثيرات هذه القوى، اعتمد على أطروحات غربية تدعي أن هناك “وطنية جديدة” فرضها الاستعمار و”وطنية” لا تعترف بالحدود التي رسمها المستعمر.
بالنسبة لحكم محكمة العدل الدولية، ادعى مسكي أن المحكمة لم تعترف بسيادة المغرب على الصحراء، وهو تزوير للحقائق. محكمة العدل الدولية أكدت على روابط تاريخية بين المغرب والصحراء ولم تشر بشكل مباشر إلى تأييد المخطط الانفصالي الذي تدعمه البوليساريو.
كل هذه الأمثلة تبرز بوضوح كيف أن الأطروحات المدافعة عن المخطط الانفصالي في الصحراء لا تقف على أرضية علمية متينة، بل تعتمد على مغالطات وتحريفات تاريخية واجتماعية. إنها مثال واضح على “برهان الخلف”، الذي يثبت بطلان الادعاءات من خلال كشف التناقضات والأخطاء في هذا الطرح. فكلما حاول المدافعون عن هذا المخطط إيجاد مبررات علمية، كانت الأدلة والحقائق التاريخية تصدها وتفضح زيفها.