من الإدانة إلى التبرير: تحليل استراتيجيات التلاعب بالسرد

من الإدانة إلى التبرير: تحليل استراتيجيات التلاعب بالسرد

- ‎فيواجهة, رأي
IMG 20250319 WA0093
إكسبريس تيفي

 

فيصل مرجاني/

 

في عالمنا هذا، تظل الحقيقة ثابتة مهما حاول البعض إعادة تشكيلها وفقاً لأهوائهم، لكن الإدراك الجماعي هو ساحة الصراع بين الواقع والتأويل، بين الفعل ومسؤوليته، بين الجريمة ومحاولات التنصل منها. فمنذ خروجه من السجن بعفو ملكي، يسعى سليمان الريسوني إلى إعادة بناء صورته، محاولاً تحويل قضيته من إدانة واضحة في جريمة استغلال طفل قاصر إلى معركة زائفة حول حرية التعبير. لكن هل يمكن للحرية أن تكون مبرراً لمسح الفعل؟ وهل يمكن للتلاعب بالسرديات أن يغير جوهر الأشياء؟

 

إن هذه المحاولة لإعادة بناء الصورة تتجذر في فلسفة المغالطة، حيث يتم قلب العلاقة بين الفعل والعقاب، ليصبح الجاني ضحية، وتتحول المساءلة القانونية إلى اضطهاد سياسي. هذا المنطق يقوم على فرضية أن إعادة تشكيل السرد كفيلة بمحو الفعل الأصلي، وكأن الكلمة قادرة على محو الأثر. لكنه تجاهل جوهري لطبيعة الحقيقة، التي قد تتعرض للتشويه، لكنها لا تفنى. إن الإنسان، وفقاً لمنطق الوجود والمسؤولية، ليس فقط كائناً يتصرف، بل كائناً مسؤولاً عن أفعاله، وما يحدد هويته ليس فقط ما يدعيه عن نفسه، بل أفعاله كما هي في الواقع، بغض النظر عن محاولات إعادة تأويلها.

 

الاستراتيجية التي يعتمدها الريسوني تعتمد على قلب السببية، وهي مغالطة شائعة في الخطابات التي تحاول إخفاء الحقيقة عبر إعادة تشكيل السياق. فبدلاً من مواجهة الواقعة التي أدين بسببها، يسعى إلى تقديم نفسه كضحية لنظام سياسي، متجاهلاً أن القضية لم تكن رأياً سياسياً، بل جريمة تستند إلى أدلة قانونية. هذا النوع من التلاعب بالسرد يعكس فهماً ذرائعياً للحرية، حيث يتم اختزالها إلى مجرد أداة تستخدم عند الحاجة، دون أي التزام بمسؤولياتها أو حدودها الأخلاقية. فالحرية، في جوهرها، ليست مجرد قدرة على الفعل، بل التزام بتحمل عواقب الفعل.

 

إلى جانب هذا، يعتمد الريسوني على استراتيجية العاطفة، التي تقوم على طمس الحقيقة عبر إغراق الجمهور في تفاصيل المعاناة الشخصية، في محاولة لصرف الانتباه عن جوهر القضية. هنا، نحن أمام منطق يوظف العواطف كأداة لمحو الحدود بين الجريمة والمسؤولية، بحيث يصبح الشعور بالظلم أكثر أهمية من الحقيقة الموضوعية. لكن في الفلسفة الأخلاقية، لا يمكن للعاطفة أن تكون بديلاً عن الحق، ولا يمكن للحالة الشخصية أن تلغي المسؤولية الأخلاقية.

 

الأخطر من ذلك هو محاولة إعادة بناء الهوية عبر آلية التفكيك وإعادة التركيب. فمن شخص أُدين في قضية استغلال طفل قاصر، يسعى الريسوني إلى تقديم نفسه كمناضل، وهو بذلك يوظف أداة تستخدم عادة في الفلسفة السياسية، حيث يتم تفكيك الهوية السابقة واستبدالها بهوية جديدة تتناسب مع مرحلة ما بعد الإدانة. لكن السؤال الجوهري هنا: هل يمكن للهوية الجديدة أن تحل محل الفعل الأصلي؟ إن الإنسان قد يعيد تشكيل صورته، لكنه لا يمكنه إعادة كتابة ماضيه، ولا يمكنه الفرار من منطق السببية الذي يربط الفعل بنتائجه.

 

ما يزيد من حدة التناقض هو أن بعض المدافعين عن الريسوني، ممن يرفعون شعارات الحرية والعدالة، يسقطون في فخ الانتقائية، حيث يتحول موقفهم من حماية الفئات الهشة إلى تبرير الاعتداء عليها عندما يتعلق الأمر بشخص يدعمونه سياسياً. هذا يعكس أزمة في المنطق الحقوقي نفسه، حيث تصبح المبادئ خاضعة للانتماء وليس للعقل، ويتم توظيف القيم وفقاً للمصلحة، وليس وفقاً لمعيار ثابت. إن الحرية، من منظور فلسفي، لا تكون حرية حقيقية إلا إذا كانت غير قابلة للتجزئة، وإلا فإنها تتحول إلى مجرد أداة في يد أصحاب السلطة الرمزية، تُستخدم متى كانت مفيدة، وتُهمل متى كانت غير ذلك.

 

شخصياً، أنا دائماً ادافع عن الحريات الفردية، سواء في المسائل الجنسية أو العقائدية أو الفكرية. أؤمن بأن لكل فرد الحق في أن يختار قناعاته، طالما أن اختياراته لا تنطوي على تعدٍ على الآخرين. لكن في حالة الريسوني، لسنا أمام قضية تتعلق بالحق في الاختيار، بل أمام فعل تم على حساب طرف لم يكن يملك الإرادة الكاملة. إن الفرق بين الحرية والاستغلال يكمن في وجود طرف قادر على اتخاذ القرار، وطرف آخر يتم انتهاك حقه في اتخاذ ذلك القرار.

 

في هذا السياق، عندما تعرضت قريبة الريسوني للمساءلة القانونية بسبب إجهاض سري، كنت من بين الذين دافعوا عنها، لأن الأمر هنا كان يتعلق بحق المرأة في تقرير مصير جسدها. لكن الفرق بين الحالتين واضح: في قضية الإجهاض، نحن أمام شخص يقرر لنفسه، بينما في قضية الريسوني، نحن أمام استغلال قاصر لم يكن يملك القدرة على اتخاذ القرار. الدفاع عن الحريات لا يمكن أن يكون عملية انتقائية، حيث يتم المطالبة بالحرية عندما تخدمنا، وتبرير القمع عندما لا يخدمنا.

 

إن ما يحدث اليوم ليس مجرد دفاع عن شخص، بل هو محاولة لإعادة تعريف مفهوم الحرية بطريقة تخلط بين الحقوق والانتهاكات، وبين المبادئ والمصالح. إن الفلسفة السياسية تعلمنا أن الحرية ليست مجرد قدرة على الفعل، بل هي مسؤولية تتطلب احترام الآخرين، وعدم التعدي على حقوقهم. لذلك، فإن دفاع الريسوني عن نفسه لا يمكن أن يكون دفاعاً عن الحرية، بل هو دفاع عن محاولة لتزييف الحقائق، واستخدام السرديات لتبرير ما لا يمكن تبريره.

 

في النهاية، تبقى الحقيقة صامدة مهما حاول البعض إعادة كتابتها، وتبقى المسؤولية الأخلاقية قائمة، لأن الفعل لا يمحى بإعادة تشكيل الخطاب حوله. قد ينجح البعض في خداع جزء من الرأي العام لبعض الوقت، لكن منطق الأشياء أقوى من أي تلاعب سردي، ومن يحاول إخفاء جريمته تحت عباءة الحرية، ينتهي بأن يكشف عن فهمه المشوه للحرية ذاتها

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *