عندما تنشأ في بلد نخضع فيه لتأثير وسائل اعلام القومية العربية، يكون ذلك لدينا انطباعان متناقضان فيما يخص القضية الفلسطينية. الانطباع الاول هو ان اسرائيل ستختفي بفضل المقاومة و المقاطعة. و الانطباع الثاني هو ان الفلسطينيون كذلك سيختفون بسبب الحروب التي تشنها اسرائيل عليهم و ان فلسطين دولة كان ذات سيادة و تم استعمارها.
بعيدا عن اديولوجيات الصهيونية الجديدة و القومية العربية و الاسلام السياسي، فالحقيقة التاريخية احببنا او كرهنا هي ان اسرائيل دولة مستقلة و قائمة منذ 72 سنة، و لا من مؤشرات على انها ستختفي في القريب العاجل، هذا ليس من تخميني الشخصي، بل هو من تصريحات الامم المتحدة رغم عدم اعتراف هذه الاخيرة بالحدود و الاراضي المتحكم فيها.
زيادة على ذلك، الكثير من الشباب يعتقد ان القدس اصبحت اسرائيل تعتبرها عاصمة لها منذ 2017، السنة التي نقلت فيها الولايات المتحدة الامريكية سفارتها، في حين ان اسرائيل تتعامل مع القدس كعاصمة منذ 1967. شئنا ام ابينا، هذا هو الواقع التاريخي للاسف. اذا اردنا تحسيس الشباب العربي للقضية الفلسطينية، فواجب و مأثور البدء بقول الحقيقية و استيعاب الواقع من أجل التحليل..
من ناحية اخرى، فلسطين دولة نتمنى ان يُعترف بها و لكنها غير موجودة بعد، صحيح ان مئات الدول تعترف بها و لكن لا سيادة لها في خريطة العلاقات الدولية و لا اعتراف بها في الامم المتحدة بسبب الڤيتو الامريكي في مجلس الامن. كل هذا لا يعني ابدا ان الفلسطيين غير موجودين، بالعكس، فديموغرافيا هم الاقوى.
عندما يدرس التاريخ في مقررات البلدان العربية يمر مرور الكرام او احيانا يتناسى بعض المحطات التاريخية، مما يولد مغالطات ليست لصالح القضية. فمثلا وضع فلسطين قبل قيام اسرائيل و اطماع بعض الدول العربية لضم تلك الارض من أهم العوامل التي اخرت التوافق على النضال من اجل قيام دولة فلسطينية.
تلك الارض تجمع اليوم اسرائيل و الاراضي الفلسطينية كان قبيل ذلك تحت الانتداب البريطاني على فلسطين، فهم من خلقوا كيانا في تلك الارض لتنفيذ وعد بلفور القاضي بإحداث وطن قومي لليهود. أما قبيل ذلك لم يكن كيان فلسطيني، بل كانت هذه الارض جزء من سوريا العثمانية التي كانت تضم كلا من: سوريا، لبنان، اسرائيل، الضفة الغربية، قطاع غزة، الاردن و اجزاء من العراق و تركيا.
و كانت سوريا العثمانية مقسمة لعدة ولايات. شمال اسرائيل كان ينتمي لولاية بيروت، وسط اسرائيل مع قطاع غزة و الضڤه الغربية كان ينتمي لمتصرفية القدس، جنوب اسرائيل كان ينتمي لولاية سوريا.
قامت حروب عدة مع البلدان العربية منذ قيام دولة اسرائيل و كانت هذه البلدان هي من تبادر في غالب الاحيان و هي من تخسر في غالب الاحيان ايضا. لم تعلن مصر و سوريا و الاردن خاصة الحرب تلو الحرب ضد اسرائيل من اجل قيام دولة فلسطينية. فقد كانت الاردن و معها العراق من جهة و تتنافس مع مصر و سوريا من جهة اخرى. فالاردن كانت هاشمية، و العراق كانت هاشمية كذلك قبل الانقلاب الاعسكري المدعوم مصريا و سوريا. وكانت الاردن و العراق تكونان كنفدراية الاتحاد العربي. و كانت للقدس و المسجد الاقصى اهمية كبرى عند الهاشميين الذين طُردوا من مكة من طرف آل سعود ايام الحسين شريف مكة.
اما مصر، فقد كانت تريد تحت قيادة جمال عبد الناصر، خلق وطن عربي كبير نواته مصر، سوريا و فلسطين، و قد استبقت هذا الحلم بالجمهورية العربية المتحدة التي اندمجت فيها مصر مع سوريا.
اما فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة، فلم يتم الاتفاق عليها بطريقة نهائية إلا سنة 1974 خلال القمة العربية بالرباط، حيث تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كالممثل الوحيد للشعب الفلسطيني بهدف قيام دولة فلسطينية مستقلة عن اسرائيل و تم في هذه الفترة الاعلان عن فك الارتباط بين الاردن و الفلسطينيين اي بين ضفتي نهر الاردن.
في اسرائيل و الاراضي الفلسطينية، هنالك 6.5 مليون فلسطيني، سواء في الضفة او غزة او القدس الشرقية او فلسطينيو الداخل عرب اسرائيل. علما انه هنالك 5.5 مليون لاجئ فلسطيني في الدول المجاورة كالاردن و سوريا و لبنان. لهذا السبب اقول انه لا يمكن للفلسطينيين ان يختفوا ووجودهم كشعب ليس مهددا على الإطلاق . زمن الحروب قد ولّى و نحن اليوم في مفترق طرق. حتى اسرائيل القوية غير قادرة على اخد قرار نهائي لان الحلول المتاحة، احلاها مرّ بالنسبة لها.
حلّ الدّولتين يجعلها تتنازل على اراضي لقيام دولة فلسطينية مستقلة و لكن في نفس الوقت، هذا الحل يضمن لها دولة ذات غالبية ديموغرافية يهودية. حلّ الدولة الواحدة يسمح لها بضم اراضي جديدة للسيادة الاسرائيلية، ولكن ضم الارض يعني اعطاء الجنسية لمن عليها و بالتالي حتما اغلبية ديموغرافية للفلسطينيين سواء كانت دولة طائفية على الطريقة اللبنانية او دولة بقوميتين على الطريقة الجنوب افريقية او دولة علمانية تتنازل عن شرط يهودية الدولة.
اسرائيل من اقوى الدول في العالم و لكنها في موقف ضعيف ديموغرافيا. 20% من الاسرائيليين هم عرب فلسطينيون، لهم نفس حقوق و واجبات اليهود و حزبهم هو ثالث قوة سياسيا في البرلمان ما يخلق ازمات سياسية في البلاد مع كل انتخابات. هنالك حالة من الخوف و الهلع في اوساط اليمين الاسرائيلي بسبب التحدي الديموغرافي و خير دليل هو انسحاب اريال شارون من قطاع غرة المكتظ بالسكان الفلسطينيين، تنازل على الارض لكي لا يضطر في يوم ما الى اعطاء الجنسية لفلسطينيي غزة.
نظرنا الى ديموغرافية العرب، ماذا عن ديموغرافية اليهود ؟
الحقيقية هي انه 50% من يهود اسرائيل هم عرب كذلك. فقد هاجر آبائهم و اجدادهم بسبب المضايقات و العنف و الطرد اللذي تعرضوا له. كل حرب مع اسرائيل كانوا يدفعون ثمنها فقط لانهم يهود. فقد كانت ثارة الدول و ثارة شرائح من المجتمع تنتقم منهم . و هذا مؤسف عندما نعرف انه على مر التاريخ، كانت شمال افريقيا و الشرق الاوسط اكثر امانا لليهود من اوروبا التي وصلت الى حد الهولوكوست ايام الحرب العالمية الثانية. باستثناء المغرب و تونس، جل الدول العربية لاتعترف بيهودها لحد الآن، بل و حرمتهم من الجنسية و الملكية.
يقول المثل التيبتي: “اذا لا تستطيع محاربة عدوك، فاقبله”. اسرائيل اقوى من الدول المجاورة مجتمعة و اثبثت ذلك اينما مرة، زيادة على ذلك، اسرائيل موجودة الآن و لن تختفي و هي دولة جارة شئنا ام ابينا.
من ناحية اخرى، الفلسطينيون هم الاقوى ديموغرافيا و قد تكون الامور محسومة لصالحهم في المستقبل، علما انه لن يختفوا كذلك و هم موجودون على الارض مهما كان نوع السلطة الممارسة عليهم.
حان الوقت لتطبيع العلاقات بعد 72 سنة من المقاطعة غير المفيدة، حان الوقت لتصالح الدول العربية مع يهودها و لفتح قنوات الحوار بين الشعوب حيث فشلت السياسة و الكف عن توريث الحقد و الكراهية التي لاتخدم احدا.
المقاطعة لم يعد لها معنى اليوم و المثال التركي يثبت ان التطبيع لا يعني غياب الضغط و العتاب. ما معنى ان لا يسلّم رياضي عربي على رياضي آخر في مسابقة دولية لا لشيء الا لانه اسرائيلي ؟ ما علاقة الرياضي الاسرائيلي بسياسة حكومته ؟ المقاطعة اليوم تتحول في الكثير من الاحيان الى مظلة لاعطاء المشروعية لمعاداة السامية المحضة خاصة في بعض الاوساط القومية العربية اليسارية و الاسلامية السياسية.
المهدي البياض، فاعل جمعوي
غلاهم
دمت متألق ،مقال يستحق الاطلاع عليه