في سبتمبر 2005 نشرت صحيفة دانماركية رسوما كاريكاتورية، اعتبرت مسيئة للإسلام، ونبيه، وللمسلمين، وفجرت غضبا في العالم الاسلامي ضد صاحب الكاريكاتير، وجريدته، وبلده ايضا، فما كان من الجيران، النرويج، السويد، وألمانيا، وبعدها #فرنسا، الا ان اعادوا نشر تلك الصور على صحفهم بدعوى أن حرية التعبير، بما فيها انتقاد الاديان هي “الدين الحقيقي” في هذه الدول، وأنه كما للعالم الاسلامي الحق في حماية رسوله رمز الدين الذي يعتنقه، لهذه الدول أيضا الحق في الدفاع عن “ديانتها”. وبما أن الدين يكون دائما الستار الذي تتوارى خلفه الأطماع الاقتصادية، ويكون محركا لشيء آخر غير الدفاع عن العقيدة، فرد الفعل بدوره يجب أن يكون ذا طابع اقتصادي، لذلك في تلك الفترة أطلقت حملات مقاطعة للمنتجات الدانماركية، والنرويجية، والسويدية، وكل بلد قامت صحافته باعادة نشر تلك الرسوم المسيئة، والنتيجة؟ خسائر اقتصادية لهذه البلدان.
لكن الدول الاسكندنافية والتي تصل فيها نسبة الإلحاد الى 85% كانت أكثر ذكاء من فرنسا ماكرون، وظفت “القوة الناعمة soft power” من أجل إصلاح الضرر الاقتصادي الذي لحق بها، ولم تكن قادرة على التشبث باغضاب دول في حجم السعودية، واندونيسا، وباكستان، ومصر، ومن بين ما قامت به ان دفعت وزارة خارجية هذه الدول خاصة الدانمارك والسويد لتمويل عدد من البرامج الثقافية أجل تقريب مواطني الشرق الاوسط وشمال افريقيا من ثقافة هده الدول، وتعريفهم بعقليتها التي تعتبر الحرية ديانتها الحقة، وان انتقاد نبي او دين هو في عرفها اضطهاد لهذه الديانة، اي “ديانة #الحرية”، وليست في عرف الاسكندنافيين عامة اضطهاد متعمد لدين بعينه، او نبي، او أمة ما، لذلك حين قام احدهم باحراق القرآن في مدينة مالمو السويدية قبل بضعة أشهر، لم يكن رد فعل الحكومة السويدية هو التشبث بحرية هذا الرجل في هكذا فعل تعمد القيام به في اكثر مدينة يتجمع فيها مسلمون بالسويد، وإنما حاولت استيعاب الحادث، وتصريفه على انه تصرف ناتج عن فوبيا الاجانب الذي يعاني منه السويديون، وان السويد الدولة تحاول ايجاد توازن بين قلقها من تراجع الولادات في مجتمعها، وارتفاع الشيخوخة، وبين “الاستفادة” من توالد المهاجرين دون ان يخل هذا التوالد بقوة الاقلية المتحكمة في صناعة القرار السويدي.
“علمانية فرنسا متطرفة وعنيفة، اما علمانية السويد فهي تحترم كل الديانات”، كان هذا قول احد السياسيين السويديين ونحن نجتمع معه على خلفية أحداث “البوركيني” حين أجبر شرطيان فرنسيان امرأة مسلمة بأن تغادر الشاطئ لأن البوركيني “حرام” في العرف الفرنسي، ولا يسمح الا بالبيكيني، رأى السياسي السويدي ان ما قامت به فرنسا هو اختيار لعلمانية تنتج التطرف، والعنف، بل وتسيء للمرأة، وأكد أن السويد لن تنزلق الى هذا الاختيار الفرنسي.
هل كان هؤلاء الساسة السويديون سيكون لهم هكذا موقف خارج المقاطعة الاقتصادية؟ طبعا لا، فلا يمكن للاخر ان يمنحك ما ترغب فيه وأنت قاعد في مكانك، لكن هذا لا يجي ان ينسينا أن المقاطعة هي جزء من الضغط، من الاحتجاج، وليست الكل، وانك حين تدعو “الحكام المسلمين” الى التصرف، انت تتناسى انك تنكر عليهم اسلامهم، وحين تعتبر ان المنتجات التركية هي البديل انت هنا تفرض على المسلمين “إسلاما تركيا” ولا تختلف بذلك عن ماكرون الذي يريد إسلاما فرنسيا.
السؤال الان هو:ماكرون حين تعمد مهاجمة الإسلام كان يعرف ان هذا سيغضب المسلمين، لكن لماذا تعمدها؟ ولماذا الان بالذات؟”.
لعل المسلمين حين بحثهم عن جواب سيكتشفون ان فرنسا لا تحركها فقط “عقدة الكنيسة ضد المسلمين فقط، بل ضد كل الأديان، وأنها تتبنى علمانية إقصائية، وليس علمانية متسامحة، وسيجدون أيضا انه مثلا في 2015 سجلت السنة التي ارتفعت فيها هجرة اليهود من فرنسا هاربين من علمانية فرنسا العنيفة والمتطرفة (وللمفارقة هي السنة التي وقعت فيها حادثة شارلي ابدو)، واتجهوا الى كندا، اسرائيل ، والمغرب، (بما ان فرنسا تحتضن اكبر تجمع لليهود المغاربة وتأتي بعدها اسرائيل). والسبب في هذه “المقاطعة اليهودية الصامتة” لفرنسا عكس المقاطعة المتكلمة للمسلمين، هو تضخم “عقدة الكنيسة” لدى الفرنسي الأبيض، وارتفاع كراهيته لكل ما هو يهودي، “هؤلاء الاثرياء الذين استحوذوا على فرنسا”، هكذا تراهم فرنسا، مثلما ترى المهاجر المسلم استحوذ على فرنسا!!
عاقب اليهود فرنسا بالرحيل عنها، وافراغ خزائنها من اموالهم، وحرمانها من كفاءاتهم، ويحاول المسلمون اليوم التعبير عن احتجاجهم بحملات مقاطعة افتراضية مع أمل انتقالها الى العالم الواقعي، واحداث بعض من التأثير، لكن الفرق بين مقاطعة اليهود ومقاطعة المسلم هو أنك لن تجد أحدا سيقول لليهودي:”انت مصاب بعقدة فرنسا”، ولن تجد احدا يقول للمسلم:”من سيتضرر من المقاطعة هو الموظف المسلم في شركة فرنسية”. الفرق بين الفريقين ان الاول حمل ما لديه وهاجر الى بلد اخر فأرض الله واسعة، والثاني ظل ذليلا في ارض تكرهه، ووجد في الاساءة الى نبي الاسلام فرصته في الانتفاضة من أجل نفسه.
#فرنسا جائعة، وجوعها عبرت عنه منذ احتجاجات السترات الصفراء في 2018، وزاد مع تداعيات جائحة كورونا، وطيران ماكرون الى لبنان هو طيران الجائع، ومضايقات فرنسا واستفزازاتها للمغرب، وابتزازها له، هو ابتزاز الجائع، فرنسا اليوم جائعة، ووحيدة، قضية بريكست لم تكن ولن تكون بالسهلة، وصعود جديد لترامب سيزيد من جوعها، وألمانيا ميركل ستظل قوية، وستظل متسترة عن افتتانها بالصين الجديدة، ولن تصبر كثيرا عن انضمامها للمركب الصيني.
قد تحدث مقاطعة_المنتجات_الفرنسية بعض التأثير، لكن لجم جماح ماكرون وجوع فرنسا يلزمه أكثر من الغضب على صور وتصريحات مسيئة، للحد من محاولة ماكرون وصحبه تصريف مشاكل فرنسا الى سلة الفواكه بحدائقه الخلفية في الشرق الاوسط وافريقيا بشمالها وغربها.
فرنسا جائعة وجوعها قبيح، قبيح خاصة وأن هناك سعي نحو اعادة تشكيل أوروبا جديدة، وليس كل تغيير يأتي بطرق سلمية، احيانا حكام العالم يفضلون تأجيج الصدام من أجل خلق قوة جديدة!! والى ذاك الحين ستظل تصريحات ماكرون وأصحابه هي تصريحات في ظاهرها دفاع عن حرية التعبير، وفي باطنها هي أصوات بطون تتألم جوعا، وسيكون من السهل اغضاب المسلمين ليرتكبوا أخطاء تقتنصها فرنسا ماكرون ليجعلوا حكام بلدانهم يدفعون “دية الفرنسي”
شامة درشول