ترامب ينهي أسطورة الاستقواء بالخارج

ترامب ينهي أسطورة الاستقواء بالخارج

- ‎فيدولي, واجهة
9
إكسبريس تيفي

 

نجيبة جلال/

لعقود، ساد وهم بأن العالم محكوم بالقوانين والقيم الليبرالية، بينما كانت القوة تُمارس خلف الكواليس تحت غطاء المؤسسات الدولية. لكن السنوات الأخيرة كشفت حقيقة هذا النظام، حيث لم تعد القيم سوى ديكور يخفي لعبة المصالح. مع صعود إدارة ترامب، تلقت هذه المنظومة ضربة قاضية، سقطت معها كل الادعاءات عن نظام عالمي قائم على الأخلاق والعدالة، وبرزت بوضوح السياسة الواقعية (Realpolitik) كقاعدة جديدة تحكم العلاقات الدولية.

قرارات ترامب لم تكن مجرد نزوة سياسية، بل إعلانًا صريحًا لانهيار النظام العالمي القائم على القوانين والمؤسسات منذ معاهدة فيينا عام 1815. تخلى عن الأيديولوجيا الويلسونية التي حكمت السياسة الأمريكية لعقود، وأعاد تشكيل العلاقات الدولية بمنطق السوق: الدفع مقابل الخدمة، المصالح فوق القيم، ولا مكان للمجاملات الأيديولوجية. لم تعد أمريكا تهتم بما يفعله حلفاؤها بشعوبهم، بقدر ما تهتم بمدى قدرتهم على تأمين المصالح الاقتصادية والأمنية. لم يعد هناك داعٍ حتى لتبرير التحركات بشعارات حقوق الإنسان، فالأمور باتت واضحة: من يدفع أكثر يضمن الدعم، ومن يعارض يُعاقب اقتصاديًا أو عسكريًا.

هذا التحول كشف زيف الخطاب الغربي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث برزت ازدواجية صارخة في المعايير. حين اجتاحت روسيا أوكرانيا، انتفض الغرب دفاعًا عن “السيادة”، لكنه في المقابل دعم إسرائيل دون قيد أو شرط رغم ما تمارسه في فلسطين. هذه الانتقائية لم تعد مجرد انحياز سياسي، بل دليل على أن القيم التي يتغنى بها الغرب ليست سوى أدوات ضغط تُستخدم عندما تخدم المصالح.

ومع هذا التحول، دخل العالم مرحلة جديدة لم تعد فيها العلاقات تُبنى على التحالفات التقليدية، بل على المصالح المباشرة. الأطلسيّة لم تعد موثوقة، والتحالفات أصبحت تُستخدم لإشعال النزاعات لا لحلها، تمامًا كما حذر كيسنجر من قبل. المؤسسات الدولية فقدت ما تبقى من مصداقيتها، والأمم المتحدة لم تعد أكثر من ساحة لصراع النفوذ، غير قادرة على استيعاب القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل.

وفي ظل هذا الانهيار، برزت ظاهرة خطيرة في العديد من الدول، منها المغرب، حيث استغلت بعض التيارات هذا الوضع للاستقواء بالخارج في ملفات حقوقية مُزيفة، متوهمة أن الغرب ما زال يحكم العالم بمفاهيم القرن الماضي. هذه الجهات، بدل أن تراهن على التغيير الداخلي والنضال الحقيقي، لجأت إلى تقديم نفسها كأدوات ضغط في أيدي قوى أجنبية، معتقدة أنها تستطيع فرض أجنداتها عبر التدخلات الخارجية. لكن الرهان على القوى الخارجية اليوم لم يعد سوى مقامرة خاسرة، لأن العالم تغير، ولم يعد هناك من يُعير اهتمامًا لهذه الملفات إلا بقدر ما تخدم مصالحه المباشرة.

من العبث إذن أن يستمر البعض في تسويق الأوهام، أو الاعتقاد بأن استدعاء الخارج يمكن أن يفرض تغييرًا داخليًا. العلاقات الدولية أصبحت واضحة: لا حقوق ولا مبادئ، بل فقط المصالح. في هذا السياق، لم يعد هناك مجال لمراهقات سياسية تحاول استنساخ تجارب الماضي. من يريد التغيير عليه أن يبحث عنه داخليًا، لا عبر التوسل لعالم لم يعد يهتم إلا بمن يدفع أكثر.

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *