باحدة عبد الرزاق
منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس نصره الله عرش أسلافه الميامين قبل ربع قرن، شهدت المملكة المغربية تحولات عميقة في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية، فقد واصل جلالته بحكمة وحنكة النهج الذي رسمه والده المغفور له الحسن الثاني وجده محمد الخامس طيب الله ثراهما، في الانفتاح على الغرب والحفاظ على التوازن في العلاقات الدولية، مع إضفاء لمسته الخاصة التي تميزت بالبراغماتية والرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى.
لقد أدرك جلالة الملك منذ البداية أهمية تنويع الشراكات الاقتصادية للمملكة وعدم الاعتماد على شريك واحد، فعلى الرغم من العلاقات التاريخية الوطيدة مع فرنسا، عمل جلالته على توسيع دائرة الشركاء الاقتصاديين للمغرب داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه، وقد أثمرت هذه السياسة الحكيمة نتائج ملموسة، حيث أصبحت إسبانيا الشريك التجاري الأول للمملكة متجاوزة فرنسا، كما تعززت العلاقات الاقتصادية مع دول أوروبية أخرى مثل إيطاليا وألمانيا.
وعلى صعيد العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، نجح جلالة الملك في تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع هذا التكتل الهام، حيث دخلت اتفاقية الشراكة بين المغرب والاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ في مطلع الألفية الثالثة، وقد فتحت هذه الاتفاقية آفاقاً واسعة للتعاون في مجالات التجارة والاستثمار والتنمية، مما عزز مكانة المغرب كشريك موثوق للاتحاد الأوروبي على الضفة الجنوبية للمتوسط.
ولم يغفل جلالة الملك أهمية العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حرص منذ بداية عهده على توطيد أواصر الصداقة والتعاون مع هذه القوة العظمى، وقد توجت هذه الجهود بتوقيع اتفاقية التبادل الحر بين البلدين، والتي دخلت حيز التنفيذ في عام 2006، فاتحة المجال أمام تعزيز التبادل التجاري والاستثمارات المتبادلة.
لكن الإنجاز الأبرز في العلاقات المغربية الأمريكية تحقق في أواخر عام 2020، حين اعترفت الولايات المتحدة رسمياً بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية، وقد شكل هذا الاعتراف التاريخي تتويجاً للدبلوماسية الحكيمة التي قادها جلالة الملك محمد السادس بصبر وثبات على مدى سنوات، والتي نجحت في إقناع الإدارة الأمريكية بعدالة القضية المغربية.
ولم يقتصر التعاون مع الولايات المتحدة على الجانب السياسي والاقتصادي فحسب، بل امتد ليشمل المجال العسكري والأمني، فقد أصبح المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب وتعزيز الاستقرار في منطقة شمال أفريقيا والساحل، وتجسد هذا التعاون في المناورات العسكرية المشتركة “الأسد الأفريقي” التي تستضيفها المملكة سنوياً بمشاركة عدة دول إفريقية وأوروبية.
إن السياسة الخارجية الحكيمة التي ينتهجها جلالة الملك محمد السادس لم تقتصر على توطيد العلاقات مع الشركاء التقليديين في الغرب فحسب، بل سعت أيضاً إلى فتح آفاق جديدة للتعاون مع دول وأقاليم أخرى. فقد عزز جلالته العلاقات مع الدول الإفريقية الشقيقة، وأعاد المغرب إلى الاتحاد الإفريقي. كما انفتح على آفاق التعاون مع دول آسيا وأمريكا اللاتينية، في إطار رؤية شمولية تهدف إلى تنويع الشراكات وتعزيز مكانة المغرب كجسر للتواصل بين مختلف القارات والثقافات.
وفي كل هذه المبادرات والتحركات الدبلوماسية، حرص جلالة الملك على جعل قضية الوحدة الترابية للمملكة في صلب السياسة الخارجية المغربية، فقد أكد جلالته في خطاباته وتوجيهاته أن التعامل مع شركاء المغرب سيكون مرتبطاً بشكل وثيق بمواقفهم من قضية الصحراء المغربية، وقد أثمر هذا النهج الحازم نتائج إيجابية، حيث تزايد عدد الدول المؤيدة للموقف المغربي والداعمة لمبادرة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب كحل واقعي وعملي للنزاع المفتعل حول الصحراء.
إن ربع قرن من حكم جلالة الملك محمد السادس قد أظهر بجلاء حنكته الدبلوماسية ورؤيته الاستراتيجية في إدارة العلاقات الخارجية للمملكة، فقد نجح جلالته في تعزيز مكانة المغرب كفاعل إقليمي مؤثر وشريك موثوق به على الساحة الدولية، مع الحفاظ على ثوابت السياسة الخارجية المغربية المتمثلة في الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة والانفتاح على مختلف الشركاء في إطار من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
يمكن القول إن السياسة الخارجية التي رسمها ونفذها جلالة الملك محمد السادس على مدى ربع قرن قد ساهمت بشكل كبير في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وفتحت آفاقاً واعدة للتنمية والازدهار للمملكة المغربية وشعبها الوفي. وإن هذه الإنجازات لتشكل أساساً متيناً لمواصلة مسيرة التقدم والبناء تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك نصره الله وأطال عمره.