نجيبة جلال
في خطابه السامي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية، أكد جلالة الملك محمد السادس على تحول جوهري في استراتيجية المملكة المغربية تجاه قضية الصحراء. فتحت القيادة الرشيدة لجلالته، انتقل المغرب من مرحلة “التدبير” إلى نهج “دينامية التغيير” فيما يخص هذه القضية الوطنية الأولى. هذا التحول الاستراتيجي لم يقتصر على الساحة الداخلية فحسب، بل امتد ليشمل الصعيد الدولي أيضا، مما يعكس رؤية شاملة ومتكاملة للتعامل مع هذا الملف الحساس.
إن دينامية التغيير التي أشار إليها جلالة الملك تتجلى في جميع جوانب قضية الصحراء، بدءا من التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للأقاليم الجنوبية. هذا النهج التنموي الشامل يهدف إلى تحويل الصحراء المغربية إلى محور حيوي للتواصل والتبادل بين المغرب وعمقه الإفريقي، مما يعزز مكانة المملكة كجسر بين شمال إفريقيا وجنوب الصحراء. وفي هذا السياق، أكد الخطاب الملكي على أهمية المبادرات الاستراتيجية القارية التي أطلقها جلالة الملك، والتي تضع الصحراء المغربية في قلبها. من بين هذه المبادرات الرائدة نجد مشروع أنبوب الغاز المغرب – نيجيريا، ومبادرة مسلسل الدول الإفريقية الأطلسية، بالإضافة إلى المبادرة الملكية الهادفة إلى تعزيز ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي.
لقد شدد جلالة الملك على أن المغرب قد قطع مع “مقاربة رد الفعل”، مفضلا اعتماد “منطق المبادرة والحزم والاستباقية”. هذا النهج الملكي، المبني على رؤية واضحة وإستراتيجية محكمة، هو ما يوجه تحركات المملكة في السنوات الأخيرة. فعلى الرغم من السياق الدولي الصعب والمعقد، تميزت هذه التحركات بالحزم والتأني في آن واحد، ساعية إلى الاستفادة المثلى من كل الوسائل المتاحة. وقد ركزت هذه الجهود بشكل أساسي على إظهار أحقية موقف المغرب وحقوقه التاريخية المشروعة في الصحراء.
إن نتائج هذه المقاربة الملكية الحكيمة باتت اليوم واضحة للعيان على الساحة الدولية. فقد تواصلت انتكاسة الكيان الانفصالي الوهمي، حيث أن 164 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة لا تعترف به، أي ما يعادل 85% من المجتمع الدولي. في المقابل، تحظى مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية بدعم أكثر من 112 دولة حول العالم، بما في ذلك حوالي ثلاثة أرباع الدول الإفريقية. وعلى المستوى الأوروبي، شهدت السنوات الأخيرة دينامية دعم واسعة النطاق لمبادرة الحكم الذاتي، شملت غالبية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. كما افتتحت 28 دولة، بالإضافة إلى منظمة إقليمية (منظمة دول شرق البحر الكاريبي)، قنصليات عامة في كل من العيون والداخلة، مما يعد تعبيرا صريحا عن دعمها للسيادة المغربية.
وفي تطور بالغ الأهمية، أعرب جلالة الملك عن خالص شكره وعميق امتنانه لفرنسا وللرئيس إيمانويل ماكرون على دعمهما الصريح لمغربية الصحراء. فقد أعلنت فرنسا دعمها لسيادة المغرب على كامل أراضي الصحراء، كما ساندت مبادرة الحكم الذاتي في إطار الوحدة الترابية المغربية، معتبرة إياها الأساس الوحيد لحل هذا النزاع الإقليمي المصطنع. إن أهمية هذا الموقف الفرنسي تنبع من كون فرنسا دولة عظمى تتمتع بصفة عضو دائم في مجلس الأمن ومعترف بها كفاعل مؤثر على الساحة الدولية. علاوة على ذلك، تملك فرنسا دراية عميقة بطبيعة هذا النزاع الإقليمي وبالأسباب الكامنة وراءه، نظرا لمنظورها التاريخي الفريد الذي يجعلها على دراية أكبر بالطابع الأصيل لحقوق المغرب. هذا التطور في الموقف الفرنسي من شأنه أن يدعم الجهود المبذولة في إطار الأمم المتحدة، ويغير قواعد اللعبة على الساحة الدولية.
ولم يقتصر الزخم الدولي الداعم للحكم الذاتي وللسيادة المغربية على فرنسا وحدها. فقد سبق للولايات المتحدة الأمريكية أن اعترفت بسيادة المغرب على الصحراء، كما أعلنت إسبانيا دعمها لمبادرة الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية. حتى روسيا، التي تربطها بالمغرب اتفاقية صيد تغطي مياه الصحراء، قامت مؤخرا بتمديد هذه الاتفاقية. هذه الدينامية الدولية الإيجابية تشمل جميع القارات ومختلف المناطق داخل كل قارة، من جنوب أوروبا إلى شمالها، ومن غربها إلى وسطها وشرقها، مرورا بالعالم العربي (باستثناء الجزائر)، وصولا إلى مختلف مناطق إفريقيا والأمريكتين وآسيا.
رغم هذه الإنجازات الهامة، شدد جلالة الملك على ضرورة عدم الركون إلى ما تم تحقيقه. فالمغرب يظل متحليا بالوضوح والعزم في مواصلة الدفاع عن قضيته العادلة. وفي هذا الإطار، دعا جلالته إلى حشد كل قوى البلاد الفاعلة من أجل مواصلة شرح ثوابت الموقف المغربي للعدد القليل من الدول التي لا تزال تسير عكس منطق القانون وتنكر حقائق التاريخ. وأكد أن هذه المسؤولية لا تقع على عاتق الدبلوماسية الرسمية فحسب، بل تمتد لتشمل مختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والمدنيين.
إن هذا الخطاب الملكي السامي يرسم خارطة طريق واضحة للمرحلة المقبلة في التعامل مع قضية الصحراء المغربية. فهو يؤكد على النهج الاستباقي والحازم الذي يتبناه المغرب، مع التركيز على التنمية الشاملة للأقاليم الجنوبية وتعزيز مكانتها كمحور إقليمي هام. كما يبرز الخطاب الزخم الدولي المتزايد الداعم للموقف المغربي، مع الحث على مواصلة الجهود الدبلوماسية والتواصلية لكسب المزيد من التأييد. إن هذه الرؤية الملكية الشاملة تعكس حكمة وبعد نظر جلالة الملك محمد السادس في إدارة هذا الملف الوطني الهام، وتبشر بمستقبل واعد لقضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية.