يشكل القرار الملكي الأخير بتعيين ثلاثة عشر سفيرا جديدا للمملكة المغربية نقلة نوعية في المشهد الدبلوماسي المغربي، تعكس رؤية استراتيجية عميقة تستجيب لتحولات المشهد الدولي المتسارعة. فالتوقيت الذي جاءت فيه هذه التعيينات، عقب الخطاب الملكي أمام البرلمان في 11 أكتوبر 2024، يؤكد أنها جزء من منظومة متكاملة لتحديث وتعزيز الأداء الدبلوماسي المغربي.
إن التوزيع الجغرافي للتعيينات الجديدة يكشف عن قراءة دقيقة للمصالح الاستراتيجية للمملكة، حيث يبرز التركيز على القارة الإفريقية بتعيين خمسة سفراء في دول محورية كالكوت ديفوار والكاميرون والنيجر. هذا التوجه يؤكد عمق الرؤية الملكية التي تجعل من إفريقيا عمقا استراتيجيا للمغرب، خاصة في ظل التنافس الدولي المتزايد على القارة السمراء والفرص الاقتصادية الواعدة التي تتيحها.
وفي مشهد يعكس براغماتية السياسة الخارجية المغربية، جاء تعيين أحمد رضا الشامي سفيرا لدى الاتحاد الأوروبي في توقيت بالغ الأهمية، خاصة مع تنامي دور المغرب كشريك موثوق للاتحاد الأوروبي في قضايا الهجرة والأمن والطاقة. هذا التعيين، إلى جانب السفراء الجدد في صربيا وبلغاريا والدانمارك، يؤكد حرص المملكة على تنويع شراكاتها داخل الفضاء الأوروبي وعدم اقتصارها على الشركاء التقليديين.
ومما يسترعي الانتباه في هذه الحركية الدبلوماسية التوجه نحو تعزيز الحضور المغربي في آسيا عبر تعيين سفراء في ماليزيا وإندونيسيا وبنغلادش، في خطوة تعكس وعيا عميقا بتحول موازين القوى العالمية نحو الشرق وأهمية بناء جسور التعاون مع القوى الآسيوية الصاعدة. كما أن تعيين سفير في سانت لوسيا يؤشر على اهتمام المغرب بتنويع تحالفاته وتوسيع دائرة أصدقائه في منطقة الكاريبي.
وتكتسي هذه التعيينات أهمية خاصة من خلال اعتمادها على ضخ دماء جديدة في الجهاز الدبلوماسي، حيث يتولى أحد عشر دبلوماسيا هذا المنصب لأول مرة، مما يعكس رغبة في تجديد الأداء الدبلوماسي وتطعيمه بكفاءات تجمع بين الخبرة والقدرة على الابتكار. ولعل التجربة الناجحة للدبلوماسيات المغربيات، وخاصة من خلفية إعلامية، كما في حالة سميرة سيطايل في فرنسا، قد شجعت على تعيين الزميلة فتيحة العيادي سفيرة للدانمارك، في خطوة تؤكد ثقة جلالته في الكفاءات النسائية المغربية وقدرتها على الدفاع عن المصالح الوطنية.
إن هذه الحركية الدبلوماسية تختلف جوهريا عن سابقتها في أكتوبر 2023، التي ركزت على الشركاء التقليديين، حيث تتجه اليوم نحو توسيع دائرة النفوذ المغربي وتنويع الشراكات في إطار استراتيجية متعددة الأبعاد. وتأتي هذه التعيينات في سياق دولي متقلب، يشهد تحولات جيوسياسية متسارعة وتحديات أمنية واقتصادية متزايدة، مما يتطلب دبلوماسية مرنة وفعالة قادرة على التكيف والمبادرة.
وتمثل هذه التعيينات الدبلوماسية تجسيدا عمليا لرؤية ملكية تقوم على الاستباقية والحزم في مواجهة التحديات الدولية المتجددة. فهي لا تعكس فقط تطورا في الأداء الدبلوماسي المغربي، بل تؤسس لمرحلة جديدة من العمل الدبلوماسي تجمع بين تجديد الكفاءات وتنويع الشراكات وتعزيز الحضور الدولي للمملكة، في إطار استراتيجية شاملة تستهدف خدمة المصالح العليا للوطن والدفاع عن قضاياه المصيرية.