باحدة عبد الرزاق
في الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلاء الملك محمد السادس نصره الله عرش المملكة المغربية، يسلط الضوء على الدور المحوري الذي لعبته مؤسسة إمارة المؤمنين في تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي للمغرب المعاصر. على مدى ربع قرن، شهدت هذه المؤسسة العريقة تحولات جوهرية عكست رؤية الملك في تحديث الدولة والمجتمع، مع الحفاظ على الهوية الإسلامية والخصوصية المغربية.
منذ توليه العرش في يوليو 1999، أظهر جلالة الملك محمد السادس فهماً عميقاً لتحديات العصر وقدرة استثنائية على التكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية. وقد تجلى ذلك بوضوح في ثلاثة محطات رئيسية شكلت منعطفات حاسمة في مسار إمارة المؤمنين خلال العقود الماضية.
أولى هذه المحطات كانت في أعقاب أحداث 16 ماي 2003، حيث واجه المغرب تحدياً أمنياً غير مسبوق تمثل في ما وصف آنذاك بـ”الجريمة الأيديولوجية المنظمة”. في مواجهة هذا التحدي، قاد الملك، بصفته أميراً للمؤمنين، استراتيجية شاملة لمكافحة التطرف وإعادة هيكلة الحقل الديني. هذه الاستراتيجية لم تقتصر على الجانب الأمني فحسب، بل امتدت لتشمل مراجعة شاملة للمناهج التعليمية الدينية، وإعادة تنظيم المؤسسات الدينية، وتأهيل العلماء والأئمة لمواجهة الفكر المتطرف بالحجة والبرهان.
المحطة الثانية جاءت مع موجة ما عرف بـ”الربيع العربي” في عام 2011، حيث أظهر جلالة الملك محمد السادس براعة سياسية في التعامل مع تحديات تلك المرحلة. فبدلاً من المواجهة، اختار نهج الإصلاح الاستباقي، مما أدى إلى تعديلات دستورية جوهرية، خاصة في الفصلين 41 و42. هذه التعديلات أحدثت نقلة نوعية في مفهوم إمارة المؤمنين، حيث انتقلت من إطارها التقليدي إلى ما أطلق عليه المحللون “أمير المؤمنين الدستوري”. هذا التحول عزز من شرعية المؤسسة الملكية وقدرتها على قيادة الإصلاحات السياسية والاجتماعية في البلاد.
أما المحطة الثالثة، والتي تعتبر من أبرز إنجازات إمارة المؤمنين في العصر الحديث، فتتمثل في الدور الريادي الذي لعبه الملك محمد السادس في إصلاح منظومة حقوق المرأة والأسرة، فقد قاد جلالته مراجعة شاملة للمنظومة الفقهية التقليدية، مما أدى إلى إصدار مدونة الأسرة الجديدة التي عززت من حقوق المرأة وساهمت في تحديث المجتمع المغربي. هذه الخطوة الجريئة لم تكن مجرد إصلاح قانوني، بل كانت بمثابة ثورة اجتماعية هادئة غيرت الكثير من المفاهيم التقليدية حول دور المرأة في المجتمع.
إن هذه المحطات الثلاث، وغيرها من الإصلاحات التي قادها جلالة الملك محمد السادس بصفته أميراً للمؤمنين، قد ساهمت بشكل كبير في تعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي في المغرب. فقد نجحت المملكة في تجنب الاضطرابات التي شهدتها العديد من دول المنطقة، وأصبحت نموذجاً يحتذى به في التعايش بين التقاليد والحداثة.
وقد أشاد العديد من الخبراء والمراقبين الدوليين بالنموذج المغربي، معتبرين أن إمارة المؤمنين تحت قيادة الملك محمد السادس قد نجحت في تحويل مؤسسة تقليدية إلى آلية عصرية لحماية الحقوق والحريات وتعزيز قيم التسامح والتعايش، هذا النجاح لم يكن ليتحقق لولا القدرة على الموازنة الدقيقة بين الأصالة والمعاصرة، وبين الهوية الإسلامية والقيم الكونية.
ومن الجدير بالذكر أن هذه التحولات قد ساهمت بشكل كبير في تحصين المغرب ضد تيارات التطرف والغلو. فقد نجحت المملكة في هزيمة الإسلام السياسي وتفكيك الخطاب المتطرف، مما جعلها واحة للاعتدال والوسطية في منطقة مضطربة.
وفي ختام هذا التقرير، يمكن القول إن تجربة إمارة المؤمنين في المغرب خلال الـ25 سنة الماضية تمثل نموذجاً فريداً في العالم العربي والإسلامي. فقد نجح جلالة الملك محمد السادس في تجديد هذه المؤسسة وتطويرها لتواكب متطلبات العصر، دون التفريط في أصالتها وعراقتها. هذا النجاح جعل من المغرب مثالاً يحتذى به في كيفية الجمع بين الهوية الإسلامية ومتطلبات الدولة الحديثة، وفي كيفية تحقيق التنمية والتقدم في ظل الاستقرار والتماسك الاجتماعي. ومع استمرار التحديات الإقليمية والعالمية، يبقى الرهان معقوداً على قدرة هذه المؤسسة على مواصلة دورها الريادي في قيادة المغرب نحو مزيد من التقدم والازدهار.