نجيبة جلال
تحتفل المملكة المغربية هذه الأيام بالذكرى الخامسة والعشرين لاعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين، وبهذه المناسبة العظيمة، يجدر بنا أن نسلط الضوء على أحد أهم أركان نظام الحكم في المغرب، ألا وهو البيعة، التي تعد من أبرز مظاهر الشرعية السياسية والدينية للملكية المغربية.
تعتبر البيعة في المغرب تقليدا راسخا وعريقا يمتد إلى أعماق التاريخ الإسلامي للبلاد، فمنذ دخول الإسلام إلى المغرب وتأسيس الدولة الإدريسية في القرن الثامن الميلادي، أصبحت البيعة الآلية الأساسية لانتقال السلطة وإضفاء الشرعية على الحكام، وقد استمر هذا التقليد عبر مختلف الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، وصولا إلى الدولة العلوية الشريفة التي تحكم البلاد منذ القرن السابع عشر.
تستمد البيعة في المغرب أصولها وشرعيتها من التراث الإسلامي، حيث تعود جذورها إلى بيعة الرضوان التي بايع فيها الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ذكر البيعة في القرآن الكريم والسنة النبوية، مما أضفى عليها طابعا دينيا مقدسا، فالبيعة في جوهرها هي عقد وعهد بين الحاكم والمحكومين، يلتزم فيه كل طرف بواجبات محددة تجاه الطرف الآخر.
في السياق المغربي، تكتسي البيعة أهمية بالغة كونها تمثل الرابط القوي بين الملك والشعب، فهي ليست مجرد إجراء شكلي، بل هي تجسيد حي للعلاقة الوثيقة التي تربط العرش بالأمة، من خلال البيعة، يجدد الشعب المغربي ولاءه وانتماءه للملك باعتباره أمير المؤمنين والضامن لوحدة الأمة واستقرار البلاد، في المقابل، يتعهد الملك بالعمل على خدمة مصالح الشعب وحماية الدين والوطن.
لقد شهدت البيعة في المغرب تطورا ملحوظا عبر التاريخ، خاصة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ففي حين كانت البيعة في السابق تقتصر على الخاصة من العلماء والأعيان، أصبحت تشمل مختلف فئات المجتمع وتمثل إرادة الأمة بأكملها، كما أن مضمون البيعة تطور ليواكب متطلبات العصر، حيث أصبحت تتضمن التزامات محددة من الطرفين فيما يخص الحقوق والواجبات.
من أبرز التحولات التي عرفتها البيعة في العصر الحديث، نذكر البيعة المشروطة التي قدمها علماء فاس للسلطان مولاي عبد الحفيظ سنة 1908، فقد تضمنت هذه البيعة شروطا واضحة تلزم السلطان باحترام الشريعة الإسلامية والدفاع عن استقلال البلاد في مواجهة الأطماع الاستعمارية، وقد شكلت هذه البيعة المشروطة سابقة مهمة في تاريخ المغرب، حيث جسدت تطلعات النخبة المغربية نحو الإصلاح والتحديث.
ومع دخول المغرب عهد الاستقلال وبناء الدولة الحديثة، حافظت البيعة على مكانتها المحورية في النظام السياسي المغربي، فقد نص دستور 1962 على أن الملك أمير المؤمنين وأن شخصه مقدس لا تنتهك حرمته، وهو ما يعكس استمرارية مفهوم البيعة في الإطار الدستوري الحديث. كما أن مراسم البيعة ظلت تقام بشكل منتظم في كل عيد للعرش، حيث يجدد ممثلو الأمة ولاءهم للملك.
إن البيعة في المغرب اليوم هي مزيج فريد بين الأصالة والمعاصرة، فهي تحافظ على جوهرها التاريخي والديني كعقد مقدس بين الملك والأمة، وفي نفس الوقت تتكيف مع متطلبات الدولة الحديثة والديمقراطية. فالبيعة لم تعد مجرد طقس تقليدي، بل أصبحت تعبيرا عن الإرادة الشعبية وتجسيدا للشرعية الدستورية للملكية.
في ظل حكم جلالة الملك محمد السادس، شهدت البيعة تطورا نوعيا من حيث المضمون والشكل، فقد حرص جلالته على تعزيز البعد التشاركي في ممارسة السلطة، من خلال تفعيل مبدأ الملكية المواطنة القائمة على القرب من المواطنين والاستماع لانشغالاتهم، كما أن الإصلاحات الدستورية التي أقرها جلالته، خاصة دستور 2011، عززت مكانة المؤسسات المنتخبة وحقوق المواطنين، مما أعطى للبيعة بعدا جديدا يتماشى مع روح العصر.
إن البيعة في المغرب اليوم هي أكثر من مجرد تقليد موروث، إنها تعبير حي عن الهوية المغربية الأصيلة التي تجمع بين الوفاء للثوابت والانفتاح على التجديد، فهي تجسد الرابطة الروحية والوجدانية التي تجمع المغاربة حول العرش العلوي الشريف، وفي نفس الوقت تشكل إطارا للتعاقد السياسي والاجتماعي بين الملك والشعب في إطار دولة الحق والقانون.
إن الاحتفال بالذكرى 25 لاعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين هو مناسبة لتجديد البيعة وتأكيد الولاء للعرش العلوي المجيد، إنها فرصة للتأمل في عمق وأصالة نظام الحكم في المغرب، والاعتزاز بهذا الإرث التاريخي الفريد الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فالبيعة كانت وستظل رمزا للوحدة الوطنية وضمانة لاستقرار البلاد وازدهارها تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.