وقد مرت العلاقات المغربية الفرنسية بمنعطفات حرجة خلال السنوات الماضية، كان أبرزها قرار فرنسا في عام 2021 بتخفيض عدد التأشيرات الممنوحة للمواطنين المغاربة إلى النصف، وهو القرار الذي أثار موجة غضب عارمة في المغرب واعتبر خطوة غير ودية تجاه شريك استراتيجي. غير أن باريس سرعان ما أدركت تداعيات هذا القرار على العلاقات الثنائية، لتتراجع عنه بعد عام ونصف، في مؤشر على رغبتها في تجاوز الخلافات وفتح صفحة جديدة مع المملكة.
وشكل خطاب جلالة الملك محمد السادس عام 2022 نقطة تحول محورية في مسار العلاقات، حين دعا “بعض الدول من شركاء المغرب التقليديين” إلى توضيح مواقفها من قضية الصحراء المغربية “بشكل لا يقبل التأويل”. وقد جاء الرد الفرنسي على هذه الدعوة الملكية في يوليوز 2024، حين أعلن ماكرون في رسالة تاريخية وجهها إلى العاهل المغربي تأييد بلاده لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، معتبرا إياه “الأساس الوحيد” للتوصل إلى تسوية نهائية للنزاع المستمر منذ خمسة عقود، ومؤكدا أن “حاضر ومستقبل الصحراء المغربية يندرجان في إطار السيادة المغربية”.
هذا التحول الجذري في الموقف الفرنسي، الذي يعد سابقة في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية، جاء ليحذو حذو الموقف الأمريكي الذي اعترف بسيادة المملكة على الصحراء المغربية أواخر عام 2020. وقد انعكس هذا الموقف سريعا على العلاقات الاقتصادية بين البلدين، إذ بعد يومين فقط من نشر رسالة ماكرون، فازت شركة “إيجيس” الفرنسية للهندسة بالاشتراك مع شركائها بعقد استراتيجي لمد خط السكك الحديدية للقطارات السريعة بين القنيطرة ومراكش، في إشارة واضحة إلى عودة الثقة الفرنسية في السوق المغربية.
كما باشرت شركات فرنسية كبرى مثل مجموعة “إنجي” مشاريع ضخمة في الصحراء المغربية، لا سيما في مجال الطاقات المتجددة، حيث تقوم بالشراكة مع “ناريفا” المغربية ببناء محطة لتحلية مياه البحر في مدينة الداخلة. وتكتسي هذه المشاريع أهمية استراتيجية كبرى، خاصة وأن الصحراء المغربية تمتلك موارد هائلة في مجال طاقة الشمس والرياح، مما يجعلها منطقة محورية في استراتيجية المغرب للتحول نحو الطاقات المتجددة وتطوير صناعة الهيدروجين الأخضر.
غير أن هذا التحول في الموقف الفرنسي أثار ردود فعل غاضبة من الجزائر، التي اعتبرت في بيان لوزارة خارجيتها أن باريس “أقدمت على إعلان تأييدها القطعي والصريح لما أسمته الواقع الاستعماري” وأنها “تنتهك الشرعية الدولية وتتنكر لحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره”. وسارعت الجزائر إلى سحب سفيرها من باريس، متهمة فرنسا بالتنصل من مسؤولياتها كعضو دائم في مجلس الأمن. لكن هذا الموقف الجزائري لم يثن باريس عن قرارها، التي فضلت في خطوة غير مسبوقة تعزيز شراكتها الاستراتيجية مع المغرب على حساب علاقاتها التاريخية مع الجزائر.
وتأتي الزيارة المرتقبة للرئيس ماكرون وحرمه السيدة بريجيت ماكرون، لتتوج هذا المسار الجديد في العلاقات المغربية الفرنسية، وتفتح آفاقا واسعة للتعاون الاقتصادي والاستراتيجي بين البلدين. وهي فرصة لترجمة هذا التقارب السياسي إلى شراكات ملموسة في مجالات حيوية كالطاقات المتجددة والبنية التحتية والتكنولوجيا، خاصة وأن المغرب يتجه نحو تعزيز موقعه كقوة اقتصادية إقليمية. كما تشكل هذه الزيارة تأكيدا على عمق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وإشارة قوية إلى أن فرنسا قد حسمت خياراتها في المنطقة المغاربية لصالح تحالف استراتيجي مع المغرب، في تحول تاريخي قد يعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة.